كثرت الأسباب التي يطرحها المحللون والمتابعون للأحداث التي تمر بها المنطقة العربية وبعض دول العالم من تفشٍّ للطائفية وللإرهاب، خاصة ذلك الذي يقوده التنظيم الإرهابي المعروف باسم "داعش".

هناك من يجيّر الأمر بأكمله لتآمر استخباراتي خارجي تلعب بخيوطه عدة دول كبرى، وهناك من يؤكد على أن الأمر ينبغي أن يخرج من إطار المؤامرة التي نرمي عليها كل انتكاساتنا ونجده مخرجا أمام الحرج الذاتي والعالمي الذي نلقاه مع بعض الأحداث ونعترف أن خراجنا رُد إلينا.

ومهما تباينت الآراء واختلفت إلا أننا لا نختلف على أن الإرهاب بكل صوره قد آذانا كثيرا، شعوبا ودولا، من أديان ومذاهب مختلفة، يسحق الإنسانية تحت مبرر الدين، دين الإسلام الذي لم يكن إلا لنشر السلام والمحبة.

احترقت من نار الإرهاب الداعشي مؤخرا عدة دول، كان آخرها دولة تونس الشقيقة التي قتل فيها عدد كبير من السياح الأجانب على شواطئ مدينة سوسة. وكان من ضمن الإجراءات التي قامت بها الحكومة التونسية كردة فعل بعد هذا الهجوم الدامي، أن أعلنت عزمها على إغلاق ما لا يقل عن 80 مسجدا تصنف بأنها خارجة عن نطاق القانون وعن سيطرة الدولة، ويعتقد بأنها تخضع لجماعات تكفيرية وجهادية.

وهنا تتقاطع الحكومة التونسية في التفكير مع الكثير في اعتبار أن بعض المساجد والجوامع أصبحت مكانا "لتفريخ" الإرهابيين، ليس في اجتماعهم ولقاءاتهم وحسب، بل فيما يقال على منابرها ممن يؤمنون بما تؤمن به "داعش" ويناصرونها علانية أو سرا، ويسهمون بطريقة أو بأخرى في تحريض الشباب وتهيئتهم ليكونوا حطبا للتطرف والإرهاب.

إغلاق المساجد لم يكن أمرا جديدا خلال الألفية الأخيرة، ولعل من أشهرها إغلاق جامع "فنسيبري بارك" شمال لندن Finsbury Park Mosque الذي شيد عام 1990 ودهمته الشرطة البريطانية عام 2003 بحجة أنه مركز لاجتماع وتدريب المتطرفين، وعثرت أثناء التفتيش على أسلحة بيضاء وجوازات سفر مزورة وغيرها، ثم عزلت إمامه المعروف باسم "أبي حمزة المصري" صاحب السجل الحافل في الإرهاب والتعاطف مع القاعدة والمطلوب وقتها من السلطات اليمنية والأميركية، والذي حكم عليه لاحقا بعد تسليمه للولايات المتحدة بالسجن مدى الحياة.

وحذر كذلك رئيس الوزراء الفرنسي عقب أحداث "شارلي إيبدو" من أنه سيتم إغلاق أية مساجد وجمعيات يشتبه في تعاطفها مع "الإسلام المتشدد".

نتفق كثيرا على أن في خطابنا الديني تجييش للشباب نحو تبني أفكار التطرف المؤدية للإرهاب تحت مسمى الشهادة، وتحريضهم على الجهاد مقابل وعود بالحور والخمور، وسمعنا كثيرا من الخطب والمحاضرات التي بُثت منذ سنوات -ولا تزال- في المساجد وعبر "الكاسيتات" وفي المخيمات الصيفية وحلقات التحفيظ ومصليات المدارس تحرض على هذه الأمور، وتلوي أعناق النصوص الدينية نحو أهداف محددة يستقبلها الشباب بحماس واندفاع ومحاولات "لنصرة الدين" ونيل الشهادة وقتال الكفار، وأصبح عدد كبير منهم وقودا لفتن بلاد مختلفة، مختطفي التفكير والقرار حتى طال أذاهم وطنهم وأهليهم.

التفجيرات الأخيرة في المساجد بالسعودية أو الكويت كانت نتاج تحريض دار في مساجد أُخرى بطريقة أو بأخرى. وهذا الاستخفاف بقيمة المسجد المعنوية لدى المسلمين كان قديما لدى التكفيريين والمتطرفين من أتباع "جهيمان" الذين استشرى انتشارهم بعد حادثة الحرم الشهيرة التي وقعت في بداية الألفية الهجرية الأخيرة، وانتهك فيها حرمة أعظم بيوت الله، وسالت فيه الدماء بحجة "المهدي المنتظر" وتجديد الدين ومحاربة الفساد، وغيرها من الحجج التي لم تزل تُتداول عبر المساجد والمنابر حتى اليوم.

كما أن انتهاك حرمة بيوت الله بالتفجير والتدمير غير مستساغ ولا مقبول، فإنه أيضا من غير الممكن ولا المعقول أن يكون إغلاق المساجد هو الحل الذي يمكن أن تقوم به الحكومات في محاولاتها لمكافحة الإرهاب، وكذلك فإن كون بعض المساجد تعدّ ملاذات آمنة للمتطرفين ينطلق من فوق منابرها وفي حلقاتها ما يقود للتكفير والإرهاب أمر غير مقبول، والسكوت عنه سيضاعف انتشار ما نعاني منه وتعاني دول الجوار والعالم أجمع من "إسلام متشدد". ربما تكون الخطوة الأولى الصحيحة هي في محاصرة المحرضين ممن يتحدثون باسم الدين، ومن توجد في خطابهم ثغرات تؤدي إلى الانقياد للإرهاب وتبريره، أولئك الذين يتخذون من منابر المساجد مكانا لهم، ويخرجونه من قيمته التي شرع لها في الإسلام.

وكذلك تقنين عدد المساجد المنتشرة بكثرة في كل حي حتى يكون بالإمكان متابعتها وتغطيتها بمن يوثق في اعتدالهم وابتعادهم عن الفكر المتطرف والتكفير، وحملهم لرسالة التنوير والسلام فوق المنابر.

إن قرار إغلاق المساجد سيكون وقعه على أنفس المسلمين كبيرا، وقد يحدث ردات فعل عنيفة أو متطرفة يستغلها من يخدم قضايا الإرهاب في المنطقة، ويحرض ضد الحكومات والآمنين في الدول المختلفة، ويزيد من عدد المريدين والمؤيدين لقادة الإرهاب ودعاته المتخفين بأثواب الدين والدعوة.