في فيلم (الإسكافي-The Cobbler) الذي كتبه (بول سادو) وأخرجه (توماس مكارثي) وقام ببطولته (آدم ساندلر)، تتحدث القصة عن إسكافي يهودي شاب يعيش مع والدته وحيدين بعد أن تركهما والده ورحل في ظروف غامضة. رغم أن الشاب كان صغيرا عندما تركه والده إلا أنه كان محظوظا بتعلمه مهنة أبيه منه قبل رحيله. يكتشف الإسكافي بالصدفة سر آلة قديمة قد تركها له، بعد أن أصلح بها أحد الأحذية وارتداه بغرض التجربة، إذ سرعان ما اكتشف أنه تحول إلى هيئة صاحب الحذاء بكل تفاصيل ذلك المظهر، بنيته وصوته بل وحتى طريقة مشيه ولغة جسده، اكتسبها الإسكافي كلها بمجرد دخول قدمه في ذلك الحذاء.
بعد أن يتأكد البطل من سر آلته العتيقة، يبدأ استعمالها بغرض التسلية أولا، ثم لتحقيق بعض الحاجات البسيطة مثلا كأن يحتال على أحد المطاعم بتهربه من الدفع بعد أكله، ولكن لا يلبث أن تغويه قدرة الحذاء الفائقة على التحول والتخفي وتستدرجه إلى أحداث معقدة، تنتهي به إلى التورط مع عصابات المدينة بشكل يكاد يودي بحياته. في ذروة تعقد الأحداث يظهر والده الذي ينقذه من كل هذا، والذي يكتشف الإسكافي أنه لم يكن سوى جاره الحلاق، أي أن والده كان يحرسه عن قرب منذ أن تورط في شبابه في ظروفه مشابهة للتي تورط فيها ابنه فاضطر إلى التخفي طيلة تلك السنوات.
يحدث حوار بين الإسكافي ووالده، يكشف فيه والده عن سر العائلة المرتبط بتلك الآلة التي توارثت استعمال خاصيتها سلالة من أجداده، كما يريه قاعة معروضة فيها كالتحف رفوف من الأحذية المصنوعة على أيدي أجداده.
لافظا عبارته: (إنه امتياز أن تعيش في أحذية الآخرين ولكنه مسؤولية أيضا)، بعد أن ينتهي بينهما ذلك الحوار يعرض الوالد على ابنه مرافقته إلى بيته ولكنه يرفض أن يخرج معه من الباب الأمامي للمحل الذي كانا بداخله (حانوت الحلاق جار الإسكافي)، ويخبره أن عليه مرافقته من الباب الخلفي، حيث يكتشف حينها مقدار ثراء والده من خلال السيارة التي كانت بانتظاره مع السائق وعلمه بالحي الفاخر الذي أخبره أنهما متجهان إليه.
حسنا، ما هي هذه السلالة من الحذّائين الذي يعيشون في أحذية غيرهم طوال قرون، والذين يكتسبون مع عيشهم ذلك كل الهيئات الخارجية لمالكي الأحذية، بل ويتصرفون كمالكيها تماما مع احتفاظهم بجوهر شخصيتهم الكامن دون تغيير!
نعم، إنّهم هم. من غير (اليهود) فعلوا ذلك فنجحوا فيه كثيرا وأخفقوا فيه أحيانا، فهمْ طوال تاريخهم الذي ارتدوا فيه أحذية غيرهم أي (أوطانهم) يمرّون بلحظات تشارف بهم على الهلاك ولكن سرعان ما ينجون من ذلك بعد بعض الخسائر التي ما يلبثون أن يتجاوزوها إلى لحظات أخرى من القوة، بدءاً بالعهد الذي كاد يهلكهم فيه (نبوخذ نصر) فنجوا بعد أن ارتدوا حذاء قورش الإخميني. منذ تلك اللحظة وهم يتنقلون من حذاء إلى حذاء بديل. ولكن الرسالة الإضافية للفيلم تكمن في منحهم شهادة التفوق الناتجة عن امتلاكهم لهذه السمة الملازمة، فالأمر ليس مجرد شتات وتشرد، بل امتياز ومسؤولية، فاليهود مسامير الحضارة كما زعم أحد أعلامهم ذات يوم، أي أنهم هم دعائم تثبيت التواصل الحضاري بين الأمم سواء على الصعيد الأفقي الجغرافي بنقلهم معارف الأمم المتعاصرة إلى بعضها، أو على الصعيد الرأسي التاريخي بنقلهم الجهود الحضارية للأمم المتعاقبة من غيرهم.
ما زال اليهود يضخمون الادعاء في نسبة هذا الدور لهم منذ صعودهم الأخير على أكتاف الإمبريالية الحديثة، ويرددونه كمن يطالب العالم بدفع الثمن، بفضل ما تملكه الصهيونية العالمية من منابر سياسية وإعلامية أتاحتها لهم القوى المتنفذة مقابل ما تجنيه تلك القوى بواسطتهم من فوائد يحققها لها بقاء دولة (إسرائيل) في وضعها الحالي.
ولست أحسب هذا الفيلم إلا نغمة إضافية في هذه المعزوفة، فالإسكافي بطل الفيلم رغم تعرضه لغواية قوة آلته السحرية، وإن تسبب للبعض بقليل من الأذى إلا أنه قد استعمل أحذيته في الجملة في المساعي الخيرة، وهذا ما جعله في ورطة إزاء رجال العصابات الأشرار، وهي ورطة أوشكت على التسبب في هلاكه أكثر من مرة، ولكنه نجا منهم بالحيلة الذاتية أحيانا وبتدخل الوالد المشفق أحيانا أخرى، والذي أقرأ فيه رمزا لحكمة التراث الإسرائيلي المزعومة. في حين أن الآلة التي أخبر الوالد ابنه بقصتها: (ذات يوم أتى رجل فقير جائع رفض الجميع إطعامه، ما عدا جدك الأكبر الذي أطعمه وآواه في منزله، ولكنه حين أصبح وجد ضيفه قد مضى تاركا له هذه الآلة)! ترمز للتفوق العلمي التقني الأخلاقي الذي يدعي اليهود استيداعه فيهم منذ قرون، مذكرين العالم بعد تكرار خطيئته الظالمة لهم كل مرة.
هكذا بدت لي رسالة الفيلم الموجهة في ظني إلى أكثر من شريحة مستهدفة من غير اليهود أو حتى داخل الوسط اليهودي عبر ملامسة وهم التفوق الكفيل بإحياء المشاعر المحفزة له نحو دعم الموقف الصهيوني وقضيته المزعومة.
إنها قوة الشاشة، فماذا نحن فاعلون؟