يقيناً؛ أن (المرأة الكاشير) ما هي إلا معركة صغيرة في هذه الحرب التي تدور رحاها بين فصيلين فكريين يتجاذبان (المرأة) وقضاياها، وكنت كتبت في مقالة الأسبوع الفارط عن رؤية الزميلين جمال خاشقجي ومحمد السعيدي، ووعدت بأنني سأدلي برأيي في هذا الموضوع، ووقتما باشرت الكتابة؛ استحضرت من خلال تجربتي الطويلة في الحديث عن قضايا فكرية متجادلٍ في شأنها، أن من يصدح برأيه فيها؛ لا بدّ أن يُخندق في صفّ أحد الطرفين المتحاربين للأسف الشديد، فلا مكان للوسط في هذه المعارك، فعقيدة بوش حاضرة أبداً: "إن لم تكن معي في رؤيتي 100% فأنت ضدي"، وهو سبب إحجام كثير من الأصوات العاقلة والوسطية عن الولوج في مثل هذه القضايا وإبداء رأيها.

ولمرات عديدة شاركت برأي أعتقد بصوابيته، ونالني من سهام أحبتي في التيار الإسلامي؛ لدرجة تشغيب بعض الصغار بأن كاتب السطور "أشدّ خطراً من العلمانيين والليبراليين والشيعة على أدبيات التيار؛ لأنه يتلبس بلبوس إسلامي"، وهو ذات الاتهام الذي طال بعض الناقدين أو المجاهرين بآرائهم -من أصلاء في التيار الإسلامي شابت عوارضهم فيها- بما يخالف ما اتجه له بعض طلبة العلم والدعاة من رأي، وهو ما أتمنى على المربين والدعاة المؤثرين التوعية به، والانتباه لضرورة غرس اتساع الصدور لآراء إخوتهم وحسن الظن بهم، وهم الذين اجتهدوا في بعض المسائل ورأوا صوابيتها دون أن يدّعوا أنهم على حقّ مطلق، وقد فقدنا في الصفّ الإسلامي للأسف ثلة كبيرة ذابت في التيارات الأخرى بسبب بعض الفجور في الخصومة، والطعن في النيات والمقاصد.

أتوجه هنا إلى سادتي الدعاة والعلماء، وألفت إلى أنه لحقب منصرمات اعتدنا في معالجة أدوائنا المجتمعية المتجذرة تركها للزمن، لإيماننا العميق بتلك المسلّمة الخالدة: "الزمن كفيل بالعلاج". اتكلنا على تلك السيرورة المجتمعية التي أثبتت -ولا شك- نجاحات في مشكلات عديدة لأدواء اخترمت مجتمعنا المحلي إذ ذاك، غير أنّ ما ساعد بشكل رئيس في تلك النجاحات هو إمساك الدعاة بزمام التوجيه المجتمعي وقتذاك، والذي تمثل في منابر الجُمع والمساجد والمدارس والإعلام المحلي عبر قناة تلفزيونية يتيمة وبضع صحف، بيد أنها كانت ذات فاعلية وقوة أداء وتأثير، ناهيك من جهة أخرى عن كون مصادر التلقي والمعرفة التي تأتي من الخارج -على محدوديتها- كان لا يمكن لها أن تمرّ إلا عبر غربلة دقيقة لمضامينها، إلى الحدّ الذي تهكم علينا الآخرون، ولا يزال بعضهم، في وصف مجتمعنا بالمنغلق.

لا شك أن تلك المرحلة مضت إلى غير رجعة والله أعلم، ولا بد من التعامل مع الواقع الجديد، والمرأة اليوم قطب الرحى ومركز الاهتمام وأسّ القضايا في مجتمعنا، وهي لم تعد تلك الأميّة التي تفرغت للبيت والأطفال، بل متعلمة وعارفة بحقها، ما فتئت تطالب به، يدعم هذا الحق لها إيمانٌ من المسؤولين بدورها في التنمية، وألا نهضة لبلدنا ونصفه معطل، دعك من الضغط الذي نتعرض له من الغرب، ورؤيته أننا نميز في الحقوق معها؛ لذلك طريقة المقاطعة ورفع العقائر دون تقديم البدائل تجاوزها الرسمي والمجتمع، وما قاله أخي جمال خاشقجي من أن حركة التاريخ والمجتمعات لا تتوقف لأحد وأنها سيرورة وسنن تمضي بنا كما مضت بغيرنا؛ هي مسلمة صحيحة، يحكيها الواقع بصدق عبر تجارب وقضايا مجتمعية متعددة، وآكد ما تنطبق عليه تلك السنن قضية المرأة ببلادي إذا ما قارناها بما حصل لمثيلاتها في دول الجوار.

نحتاج –فعلاً- إلى إعادة نظر في مواقفنا من قضاياها التي لا تنتهي، فلا تكاد تمرّ قضية وننتهي منها إلا وتنبجس أخرى تشغلنا، ونحن لا نتعلم من دروس سابقاتها، وسأكتفي بمثال واحد قريب جداً حصل خلال سنوات معدودات، يُغني عن عشرات الأمثلة، يوضح أن مواقفنا التي اتخذناها تحتاج إلى إعادة نظر، فمثال الموقف من بطاقة المرأة وصورتها، كانت هناك ممانعة كبيرة، غير أن الرسمي عندما أقرها وترك الخيار للمجتمع، يتسابق بعض الممانعين اليوم لإصدار تلك الهويات لنسائهم.

ما المانع -وموضوعات المرأة تتفجر كل آن- أن نبادر ونسابق إلى تلك المقترحات العملية حيال المرأة التي تقدّم في واقع ساحتنا المحلية، ونصوغها برؤيتنا المحافظة بدلاً من هذه الممانعة التي تنتهي في الغالب بتبدّدها في وادٍ غير ذي زرع، فيما القوم أودوا بالإبل، وربما طبّقت في مجتمعنا برؤية القوم التي لا تتساوق وقيمنا المحافظة.

صدقوني يا سادة؛ أنكم سترون (المرأة الكاشير) خلال أقل من خمس سنوات، وقد اعتاد عليها المجتمع، وتعامل معها كواقع فرض نفسه، وستلجأ لها جلّ محلات (السوبر ماركت) الكبيرة، فما المانع-بدلاً من الممانعة المطلقة- أن يطالب بعض الدعاة بما يحفظ للمرأة العاملة خصوصيتها من مثل وجود بعض السواتر، وألا تبيع إلا لامرأة- في ظل أن من يقوم بالتبضّع غالباً في عالم اليوم هم نساؤنا وزوجاتنا- وبعض الخصوصيات التي تعطي الفتاة جواً آمناً؛ يطمئن فيه الأب ودعاة وحراس الفضيلة إلى أن المرأة تعمل وفق بيئة من صميم خصوصيتنا المحافظة.

ستفتح مجالات العمل بشكل كبير للمرأة، والعمل حقّ لها لا يمكن منعها منه، وتراثنا الشرعي زاخر بنصوص تعطي المرأة حقها في العمل، فبادروا أيها العقلاء والغيورون إلى وضع رؤاكم المحافظة، بدلاً من الممانعة التي تتبدد، فمما حفظناه أن التخفيف من الفساد -حال العجز عن اجتثاثه- هو مطلب شرعي أيضاً. والله أعلم.