هناك تاريخ طويل من الصراع بيننا وبين الغرب، وصل إلى ذروته في الحملات الصليبية، ثم في موجة الاستعمار المعاصر وما تلاه من أحداث، ثم بدأنا جبهة جديدة في صراع طائفي جديد فرضته سياسة ملالي إيران وتطويعها الدين لخدمة أغراضها وأهدافها السياسية.

ولكن ما خيارنا الاستراتيجي في طريق نهضتنا إن كان هناك نهضة نسعى وراءها؟ هل الحرب ومصارعة الخصوم خيارنا الاستراتيجي الذي يجب أن يتداخل أدبياتنا وخطبنا؟ أم هو السلام والتعايش مع الآخرين؟

في خضم ما نعيشه هذه الأيام من مآس وصدام في أماكن متفرقة في العالم الإسلامي، تصبح لغة العقل مكلفة حتى أمام الجماهير الغاضبة. تلك الجماهير التي دائما ما تنجرف وراء الخطب الرنانة والمثيرة للحماسة والعواطف!

دائما لغة الصدام ودعاوى البطولة والوطنية جذابة، وطالما استخدمها المتسلقون لأجل الضحك على الشعوب والبسطاء! وغالبا ما تستخدم لتغطية الفساد والاستبداد أو للتسلق والوصولية! ولو أنهم قدموا العدل والإصلاح لكان أنفع لهم ولبلادهم، ولاستدام لتلك الشعوب الأمن والرفاه!

لدينا تجارب كثيرة للصداميين في تاريخنا المعاصر، ومن شتى التيارات، بدءا بالقومية والاشتراكية وانتهاء ببعض دول الإسلاميين هنا وهناك، وما كانت النتيجة إلا الخيبة والمصائب على الشعوب الفقيرة!

كما أن لدينا تجارب ربما أكثر في السلام الاستسلامي الذي يكون سلاما لصالح طرف واحد ربما، وكثير من تلك التجارب في الحقيقة وقعت بين أشخاص جشعين لا همَّ لهم إلا الحفاظ على الكراسي المهترئة، وبين الحكومات الأقوى من شرق وغرب، والتي تسعى إلى الحفاظ على مصالح شعوبها، ولذلك كانت النتيجة أن تلك البلاد نعمت بالأمن والاستقرار نوعا ما في تلك الفترات، إلا أنها تراجعت للوراء كل سنة بسنتين إلى الخلف!

وبالنظر إلى الغرب وتاريخه الطويل في الصراع الدموي، إلا أنه استطاع تحويل نظرية الصراع إلى تنافس حضاري بينهم، ونسوا ذلك التاريخ الدموي الطويل، فكما تمكّنوا من إيجاد آلية لحل الصراعات السياسية والثقافية داخل البلد من خلال الديموقراطية والتعددية، فقد تمكنوا من حل صراعاتهم بطرق وأساليب حضارية تنافسية سلمية، وتحولت جهودهم وتركيزهم إلى التنمية والتنافس الحضاري، بدلا من ضياعها في الحروب والمؤامرات المتبادلة!

كثير من التيارات الدينية بنت أدبياتها في الحقيقة بلغة صدامية في غالب طرحها، وتُمجد معاني الجهاد والمقاومة وهكذا، وتصرف كثير من خطبها في التجييش والحشد ضد الآخرين الذين قد يكونون من الخارج كالغرب أو الشرق، كما قد يكونون من الداخل تحت أي مسمى من ليبرالية أو شعارات طائفية وهكذا.

وعلى الرغم من أهمية شعارات المقاومة والصمود في أوقات ومناسبات معينة، إلا أن هذا الخطاب هو سبب تخلفنا اليوم في رأيي، ويكلفنا كل يوم كثيرا من الدماء والأموال بسبب ضياع البوصلة والمنهج الصحيح!

ولذلك؛ بعد وقوف بعض الدول الغربية مع حكومات الإسلاميين فيما كان يسمى بالربيع العربي، حصل إشكال منهجي لدى بعض تلك التيارات التي نشأت على تلك الأدبيات الصدامية، بعد أن فوجئوا بوقوف ذلك الغرب الذي يشيطنه صباح مساء! وكانت مناسبة جيدة لبناء علاقة جيدة بين شعوبنا والعالم، إلا أننا اليوم نفاجأ بكارثة أخرى وأسوأ، وهي الحروب الداخلية المبنية على الطائفية والمناطقية أو العرقية في عدة بقع من عالمنا العربي.

إن أكبر خطر يهددنا اليوم في نظري؛ هو خطر التفتت الداخلي تحت مسميات كثيرة، منها الطائفي والقبلي والمناطقي والعرقي، ولكن أشدها خطرا اليوم هو الطائفية التي تكاد تمزق عالمنا وبأيدينا!

وللأسف، فإن تطرف حكومة إيران ساقت المنطقة إلى مواجهة طائفية رغما عنا وفرضتها علينا، ولم تترك لنا مجالا دون مواجهتها بدلا من التعاون والتكاتف كجيران شركاء في الأرض والتاريخ!

هناك ظروف استثنائية تكون فيها لغة الصراع ضرورية، إلا أنها يجب أن تبقى استثنائية، كتهديد الأمن الوطني وما شابه. وبعض التيارات لو طبقت آراءها السياسية بشكل حرفي "دون تقديم تنازلات عند الطمع في الكراسي"؛ فإن النتيجة ستكون علاقات دولية ربما مقتصرة على دولة أو اثنتين! والبقية في خانة الأعداء! وهذا من مسبباته؛ الانغلاق التام الذي يعيشه أتباع تلك التيارات، إضافة إلى الفقر الثقافي في السياسة وانعدام الممارسة الذي سبب تكدسا وتراكما شديدا للأفكار التي لا يمكن تطبيقها إلا في عالم الخرافة والخيال!

نحن اليوم نواجه موجة رهيبة ومنجرفة نحو الصراع الطائفي الذي ربما يستمر عشرات السنين وربما أكثر، الأمر الذي ربما يقود المنطقة إلى الهلاك والفقر والجهل، ويجب أن يكون خيارنا الاستراتيجي هو التنافس الحضاري والتعايش، وليس التناطح الذي سيرجعنا إلى الوراء عشرات السنين!

وفي الوقت نفسه يجب أن أشيد بشجاعة قرار خادم الحرمين في الوقوف أمام المد الفارسي المجنون، والذي لم يستمع أبدا إلى نداءات العقل والحكمة التي طالما أرسلتها المملكة لملالي إيران ومعصومها البابوي!

هذه السياسة التي تعتمد سياسة السلام والاحترام للآخرين، ولكنها ترفع السيف البتار أمام من يحاول العبث بمقدرات الوطن وأمنه القومي.

أعود وأقول: إن خيارنا الاستراتيجي هو السلام والتعايش، ومتى عادت إيران إلى رشدها وتخلصت من العقول الخرافية التي تحكمها اليوم؛ فإن باب التفاهم والحوار يجب أن يكون هو الخيار المقدم، كما أنه مع تسارع تطور العلم والتقنية واتساع الهُوَّة العلمية والحضارية -للأسف- بيننا والدول المتقدمة؛ فإنه لا يمكن لنا أن نبني اقتصادا ونهضة بلا تواصل وعلاقات جيدة مع العالم.

فالذي بنتْه الدول المتقدمة في مئة سنة من صناعات ثقيلة وتقنية وتكنولوجيا؛ لا يمكن لنا أن نبنيه في أعوام! كما يستحيل بناؤه دون وجود تبادل للمصالح وتعاون مع أصحاب تلك التقنيات والتكنولوجيا.