حين تلقيت اتصالا من مؤسسة "سعفة" القدوة الحسنة، لحضور لقائها الربع سنوي المتضمن حلقة نقاش حول "تكامل مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز قيم الشفافية والنزاهة"، بمشاركة أعضاء الجمعية السعودية لكتّاب الرأي "رأي"، حينذاك تبادر إلى ذهني تساؤلان: الأول حول "سعفة" نفسها: ما هي، وما رؤيتها ورسالتها وأهدافها وأنشطتها؟ أما التساؤل الثاني فهو كيف أصبحت "سعفة" مؤسسة مجتمع مدني تُعنى بتعزيز قيم مهمة جدا، كالشفافية والنزاهة، في ظل عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني أصلا في بلادنا؟

ورغم اهتمامي منذ أكثر من عقد بقضية "المجتمع المدني" إلا أني لم أتعرف على هذه المؤسسة، فاطلعت على موقعها الإلكتروني وحصلت على بعض المعلومات عنها، إلا أني ذهبت لحضور حلقة النقاش أحمل التساؤلات ذاتها التي لم تتشبع بالإجابة بعد.

كان إعداد وتنظيم مؤسسة "سعفة" لحلقة النقاش دقيقا ومميزا، حظي بمشاركة عدد من الكتّاب والأكاديميين والمهتمين، إضافة إلى نائب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" الدكتور عبدالله العبدالقادر، وبعض منسوبيها.

كان اللقاء ثريا وساخنا، بدأ بكلمة لرئيس مجلس إدارة مؤسسة "سعفة" القدوة الحسنة الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن، ركز فيها على التعريف بالمؤسسة ودورها ومنجزاتها وتطلعاتها في تعزيز قيم الشفافية والنزاهة، كما تطرق إلى واقع مؤسسات المجتمع المدني في المملكة، وإلى الأهداف المرجوة من إقامة حلقة النقاش.

وتركز النقاش بداية حول عدة عناصر، كان في مقدمتها مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في القطاعين الحكومي والخاص، وجدلية "وجود" مؤسسات المجتمع المدني في المملكة، وحاز هذا العنصر على نصيب الأسد من النقاش، وكان رأي كاتب هذه السطور أنه لا توجد مؤسسات مجتمع مدني في المملكة بالمفهوم الدقيق للمصطلح، وإنما الموجود هو جمعيات أهلية لأن مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني هي "نتيجة" لمدنية الدولة والمجتمع، وهذا يحتاج إلى مراحل عدة من التجربة والتكوين البنائي الحضاري لتتشكل المساحة التي يتحرك فيها المجتمع عبر روابطه المدنية الصرفة، على غرار تجارب دول العالم الأخرى التي تتميز فيها مؤسسات المجتمع المدني بميزتين مهمتين: الحرية في الحركة والنشاط، والاستقلالية عن المؤسسات الحكومية.

وهو الأمر الذي لا تخضع له أي من المؤسسات والجمعيات الموجودة في بلادنا؛ ولهذا فإن وصفها بـ"الأهلية" أكثر واقعية من وصفها بـ"المدنية"، خاصة في الوقت الحالي على الأقل، إذ إنها تحتاج في نشوئها إلى "قرار" مطوّل من وزارة تخضع لرقابتها وسلطتها وإشرافها ومنها مؤسسة "سعفة" التي تخضع لوزارة الشؤون الاجتماعية، وجمعية "رأي" التي تخضع لوزارة الثقافة والإعلام، وهذا يجسّد صعوبة إصدار التراخيص وبالتالي تأخير صدور الموافقة عليها عدة سنوات أحيانا؛ نتيجة عدم وجود قانون عام يشرّع العمل المدني وينظمه، الأمر الذي جعل حركة غالبية الجمعيات والمؤسسات الأهلية محدودة وبطيئة، بل إن بعضها-نتيجة هذه البيروقراطية- أصبحت تعيش حالة أشبه بحالة الموت السريري!

فالمؤسسات والجمعيات الأهلية الموجودة حاليا تنضوي تحت مظلة العمل الأهلي الخيري، ويجد المجتمع بعضها غير قادرة على تلبية حاجاته وتطوره، وملامسة طموحاته، والإفادة من طاقاته، الأمر الذي أدى إلى ضرورة اقتراح مشروع "نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية" الذي نوقش في مجلس الشورى عام 2005، حيث ظهرت مسوّدته في الصحافة مبدئيا، فنال كثيرا من الانتقادات والملاحظات؛ مما أجّل إقراره ثلاث سنوات، إذ لم يتم التصويت عليه سوى أواخر عام 2008، وكان من أهم مواد النظام، ما ورد في الفصل الثاني من إنشاء هيئة تسمى "الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية" يرأسها أحد أعضاء مجلس الوزراء، ويسمى بأمر ملكي، وتضم عضويتها خمسة ممثلين عن القطاع الأهلي، يتم تعيينهم بقرار من مجلس الوزراء بناء على ترشيح منه.

وقد أسهم حينها كتّاب الرأي والأكاديميون والمهتمون بالعمل الأهلي في إيضاح الثغرات والملاحظات على النظام خلال السنوات الثلاث التي سبقت التصويت عليه، فرفع إلى مجلس الوزراء لإقراره بعد التعديل.

اليوم وبعد مضي عشر سنوات على ظهور المشروع، أصبحنا كمواطنين نتوق لصدوره بشكل رسمي -بملحوظاته- كي يقضي على البيروقراطية الحالية التي تحول دون المرونة في إنشاء الجمعيات والمؤسسات التطوعية والعمل المدني، فمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والرقابة المجتمعية والتوعية بذلك، كلها تنبع من المواطنين كشركاء في إدارة هذا المجتمع في هذا الوطن المعطاء.

وإلى أن يصدر النظام المذكور المنتظر، يجب التأكيد على أن مؤسسة "سعفة" قد علّقت الجرس بما يخصّ الوعي بقضية المجتمع المدني، وتحركت بعمق في الهامش الضيق من أجل إرساء قيم الشفافية والنزاهة، وقدمت مشروعات أنظمة مقترحة في هذا الاتجاه للمؤسسات الحكومية، وهذا ما يستحق الإشادة والشكر.