بعد التوصل إلى اتفاق بين إيران ومجموعة 5+1 بشأن الملف النووي الإيراني، كثرت التكهنات حول أبعاد هذا الاتفاق الذي وصفه الجانبان بالتاريخي وانعكاساته السياسية والاقتصادية والاستراتيجية على منطقة الشرق الأوسط، وتوقع كثيرون وجها جديدا للمنطقة من خلال إعادة دمج إيران في المجتمع الدولي بعد عزلة استمرت عقودا من الزمان بسبب الشكوك حول طبيعة برنامجها النووي والأهداف العسكرية من وراء ذلك.

يعتقد البعض أن هذا الاتفاق الذي صادق عليه مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ليس محصورا بحدود أنشطة البرنامج النووي الإيراني، وأن ذلك مجرد مظلة مرتفعة جدا لما هو أبعد من ذلك بكثير ويصل إلى إعادة رسم لخريطة التحالفات والتكتلات السياسية والاقتصادية للدول الغربية في المنطقة؛ وتوطيدا للصراع الطائفي في المنطقة ستكون طهران من خلاله لاعبا رئيسا وأداة جديدة للقوى الإمبريالية في المنطقة العربية. بل إن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال الاعتقاد بأن هناك مشروعا غربيا جديدا يعيد رسم حدود المنطقة وأطلقوا عليه "سايكس بيكو2"، خاصة ونحن نعيش ذكرى مرور قرن من الزمان تقريبا على اتفاقية "سايكس بيكو" الأولى.

وإذا ما تجاوزنا هذه القراءات لطبيعة الاتفاق، وتجاوزنا أيضا نظرية المؤامرة، والتزمنا بتحليل الاتفاق كما تم الإعلان عنه وأنه بالفعل حول البرنامج النووي الإيراني فقط دون أي مخططات سياسية أخرى، فيمكننا قراءة الاتفاق عبر بعض "السيناريوهات" لأهداف الجانبين الغربي والإيراني من وراء هذا الاتفاق بطريقة أكثر دقة؛ واستعراض الاحتمالات الممكنة كافة في هذا الصدد.

يمكننا حصر أهم احتمالات أهداف الغرب من وراء الاتفاق مع إيران في أربعة سيناريوهات رئيسة:

السيناريو الأول، يتمثل في خيار احتواء البرنامج النووي الإيراني. هنا قد تكون القوى الغربية وصلت إلى قناعة أن إيران قد قطعت شوطا طويلا في طريقها نحو دخول النادي النووي تسليحا، وأن الحل الأمثل في ظل هذه المعطيات يتمثل في إبطاء التقدم الإيراني في تخصيب اليورانيوم بنِسَب مرتفعة وتطوير أجهزة الطرد المركزي وأعدادها وتقنية المياه الثقيلة.

السيناريو الثاني، يتمحور حول مدى إدراك الغرب بحقيقة البرنامج النووي الإيراني؛ لذا وللحصول على مزيد من المعلومات حول هذا البرنامج ومدى تطوره ومزاعم سلميته، رأت مجموعة 5+1 والولايات المتحدة الأميركية أن معرفة مدى تقدم برنامج إيران النووي هذا لا يظهر إلا من خلال الحوار والنقاش مع إيران وربما الوصول إلى بعض المواقع الحساسة المرتبطة بالبرنامج النووي والتصنيع العسكري.

السيناريو الثالث، يعتقد بأن الدول الغربية قد توصلت إلى قناعة بأن إيران تمثل الحليف المثالي لها في منطقة الشرق الأوسط المضطرب منذ أحداث ما يعرف بـ"الربيع العربي" وظهور العديد من التنظيمات الإرهابية التي تزعم انتسابها للمذهب السني بالرغم من أنها في واقع الأمر تشكل تهديدا للدول السنية دون غيرها. يشترط هذا التحالف بين الغرب وإيران ضمان الأخيرة أمن إسرائيل وعدم تشكيل أي تهديد حقيقي عليها، وبالتالي فضلت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الاعتماد على طهران على حساب الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط.

السيناريو الرابع، يتمثل في توصل الغرب إلى قناعة تامة بأنه لا يمكن إحداث أي تغيير جوهري في النظام الحاكم في إيران أو تقويضه إلا من خلال التوغل في الداخل الإيراني، وهذا لا يتحقق إلا عبر الانفتاح على نظام الملالي ودخول الشركات الغربية والذي سيمهد تدريجيا بدخول مزيد من وسائل الإعلام الغربية والهيئات الحقوقية التي ستحرك المياه الراكدة في إيران. من هنا جاء هذا الاتفاق ليمهد الطريق لتحقق هذا الهدف.

من جانب آخر، يمكن تلخيص أهم الاحتمالات لأهداف إيران من المفاوضات في السيناريوهات الثلاثة التالية:

السيناريو الأول: يتمحور حول رغبة إيران في كسر العزلة السياسية والاقتصادية التي تعيشها والانفتاح على العالم واستقطاب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش السوق المحلية، وتوثيق العلاقات الدبلوماسية مع العالم بعد فترة الخمول والانكفاء التي عاشتها طيلة العقود القليلة الماضية. هذا الانكفاء كلف إيران كثيرا من الخسائر السياسية والاقتصادية دون مقابل يستحق كل ذلك.

السيناريو الثاني: يرى أن طهران وصلت إلى قناعة مفادها بأن الخصوم والمنافسين الإقليميين قد استفادوا كثيرا من العداء المعلن بين طهران ومعظم العواصم الغربية؛ مما أضر بالمصالح القومية الإيرانية، وأنه قد آن الأوان للعب على المكشوف وليس من تحت الطاولة ووضع حد للمكاسب التي تحققها تلك الدول من وراء هذا العداء.

السيناريو الثالث: يعتقد بأن إيران تخطط لمسايرة الغرب موقتا؛ حتى يتم رفع العقوبات المفروضة عليها من قبل مجلس الأمن الدولي وتحت البند السابع التي قد يصعب فرضها مجددا متى ما أخلت ببنود الاتفاق، وكذلك تحصل على أموالها المجمدة في الغرب وتقوم بشراء مزيد من الأسلحة المتقدمة في مجال الطيران المدني والحربي، وتتنفس اقتصاديا، خاصة في ظل الصعوبات المالية وانهيار العملة وتراجع أسعار النفط، وبالتالي ستنسحب من الاتفاق بعد تحقق هذا الهدف وقد يكون ذلك بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة التي قد يوصل فيها المرشد شخصية أصولية تتكفل بهذه المهمة.

شخصيا، أعتقد بأن السيناريو الأكثر احتمالا من بين السيناريوهات المذكورة يتمثل في التوقعين الثالثين للجانبين الغربي والإيراني المشار إليهما أعلاه، وقد تميل إيران خلال الفترة المقبلة إلى تنفيذ بعض الأدوار التي تتناغم مع التوجهات الغربية تجاه المنطقة وتتقاطع مع المصالح والاستراتيجيات الإيرانية.

في جميع الأحوال، سيكون المشهد أكثر وضوحا بعد تطبيق الاتفاق على الأرض، ولكن تحتاج دول المنطقة العربية العمل على حماية مصالحها وإفشال أي مخططات تستهدفها على المستويات الأمنية والسياسية والاستراتيجية من خلال اتخاذ الخطوات اللازمة كافة لذلك، وبناء علاقات وطيدة وتحالفات مع قوى دولية أخرى.

ختاما، قد تختلف استنباطات القارئ الكريم وتحليلاته لهذا الاتفاق ودوافعه مع القراءة التي تم استعراضها في هذا المقال، ويسعدني قراءة وجهة نظركم حيال الاتفاق ومآلاته.