لم ينصدم الشارع السعودي من قبل كما صدم في آخر أيام الشهر الفضيل بمقتل العقيد الصفيان على يد ابن أخته عبدالله الرشيد، الذي لم يكتف بإطلاق رصاصة واحدة بل أربع رصاصات في رأس العقيد الصفيان، كان الجميع متفق ولأول مرة على بشاعة الحدث وتخطيه كل الاحتمالات، رغم اختلافهم في بداية الشهر الكريم على إحدى حلقات مسلسل (سلفي) الذي حمل نفس الموقف -قتل والد بيد ابنه- وهنا أود أن أنوه إلى أن العقيد الصفيان كان لعبدالله الأب بعد انفصال والدته، تربى في كنفه ورعايته، إذاً فما الذي حدث؟ لماذا تغيّر عبدالله؟!

يؤكد الأقرباء ومن بحثوا عن حساب عبدالله في وسائل التواصل الاجتماعي أنه تغير مؤخراً وهذا واضح للجميع من تغريداته في تويتر، إذاً ما سر التغيير؟ ماذا حدث؟ أين هي نقطة التحول؟ لم أجد إلا احتمالا واحدا لما حدث، حيث ذكر أحد أقرباء العقيد أنه مر عام على تخرج عبدالله من الثانوية العامة دون أن يدخل جامعة أو حتى يلتحق بعمل، هل ممكن لشاب في مقتبل العمر أن ينهي حياته وحياة من قام على رعايته بسبب الفراغ؟ هل للفراغ دور فيما حدث؟ إذا قمنا بتعريف وقت الفراغ من منظور علم الاجتماع فهو "وحش يتربص بمستقبل الأجيال".

إن الإنسان الذي يعيش وقت فراغه خالياً من أي نشاط يصبح إنساناً غير سوي، فمن يقبل الشعور بالملل يقبل الموت، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالشباب فهم أكثر فئات المجتمع نشاطاً، ومصدر من مصادر التغيّر الاجتماعي، حيث يتقبل التغيير وسرعة التوافق مع المتغيرات والتكيف معها بكل جرأة. وفي اعتقادي هذا ما يفسر التغيير السريع الذي حدث لعبدالله.

فتحويل وقت الفراغ إلى ممارسات ترويحية تساعد على تكوين الذات وبناء الشخصية وتنميتها من أهم ما تركز عليه المجتمعات المتطورة؛ لأن خصائصهم المتميزة تختصر الزمن وتدفع عملية التنمية، مما يؤدي إلى تحقيق توازن الشباب النفسي والصحي والعقلي وإبعادهم عن سلبيات تطور المجتمع، التي تحد من فعاليتهم وإمكاناتهم.

من الممكن أن يكون تحليلي عاريا عن الصحة، لكن لا ننكر أن ظاهرة "وقت الفراغ" التي أوجدتها الحياة المعاصرة بكثرة؛ مما كان للتقدم العلمي والتطور التكنولوجي بالغ الأثر في زيادتها، فحلت الآلة محل الإنسان في كثير من الأعمال وعملت في ثوان ما كان يعمله الإنسان في ساعات ولربما أيام؛ مما جعل الهوة ترتفع بين كون الإنسان العامل الأساسي لتحقيق النهضة، وبين المجتمع الحديث الذي حلت فيه الآلة محل الإنسان في كثير من النواحي، مما أدى إلى انصراف الناس كنتيجة حتمية لتوفير البديل، جاعلاً الفراغ المسيطر الأكبر على حياة الفرد؛ لتبدأ المرحلة العكسية في سلوكه وعلاقته بالمجتمع إذا لم تتوافر بدائل تعيده إلى مجتمعه وهويته.

من هنا فإن "الفراغ" يعد أحد أخطر الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع. وهي بالأصل (البحث عن الهوية) التي مع الأسف ما زالت جهودنا قاصرة وسطحية ومتناقضة تجاهها، فما زلنا في مرحلة الكلام الذي لم يترجم إلى سلوك فعلي وموضوعي إلى الآن لإنقاذنا من الكوارث التي تحيط بنا، فعلينا أن نتوقف قليلاً ونسأل أنفسنا: ماذا فعلنا للشباب كي نجنبهم متاهات الفراغ، وما يمكن أن يتركه هذا المرض الاجتماعي من ظلال، ليس فقط على نفوس الشباب، بل على المجتمع بشكل عام؟ لذلك علينا أن ندرك أن الصراع على الشباب لكسب أفئدتهم وعقولهم هو الصراع الحقيقي اليوم. وعليه فنحن في حاجة إلى المراكز التعليمية والثقافية القادرة على رعاية الشباب من خلال تضافر جهود الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية والإعلامية والجامعات وجهود الباحثين عبر إدراكنا الواعي لأهمية هذه الفئة، والتخلص من مشكلة أوقات الفراغ كي لا يتحول هذا المرض إلى وحش ضار يفتك بالشباب والمجتمع. فكم هي صعبة المهمة التي تنتظر شبابنا لإنقاذنا من الانتحار الحضاري الصامت!