أمام بيتنا الطيني المهجور في قرية ذابلة غرب سراة عبيدة يسألني ابن شقيقي العائد إلينا للتو بعد سنوات طويلة من مهجره الطويل في حداثة الشمال الأميركي: بم تشعر يا عم وأنت تقف في مواجهة أول باب خشبي خرجت منه إلى هذه الحياة؟، وما مشاعرك وأنت تشاهد (مداميك) الطين التي احتضنت سنين طفولتك؟ فورا أجبت: شعوري للقرية والبيت والباب والمداميك تتناوبه مشاعر متناقضة ما بين (نوستالجيا) الحنين وبين فورة الغضب. أنا لن أنكر أبدا، يا ولدي، فضل تلك الأيام الدافئة في جوف هذا الطين الأحمر، لكنني أيضا لن أنسى أبدا عذابات (الفقر المعرفي) التي عاشتها طفولتي وبعض مراهقتي بين هذه المداميك. عشت هنا، يا ولدي، طفلا قرويا عاشقا للقراءة داخل قرية مثلجة يكاد العام أن يمر عليها دون أن تدخلها ورقة جديدة. كنت يا ولدي في الصفوف الابتدائية الأولى وأنا أقرأ كتبها المدرسية التي كان يؤتى بها إلينا من المعهد العلمي يوم كان اسم المعهد يوازي اسم جامعة، وكنت أقرأ هذه الكتب وكأنني سأدخل الامتحان بدلا منه في صباح الغد. وفي ما عدا المصحف الشريف، وبثلاث نسخ في مسجد القرية القديم يتناوب عليها آبائي الراحلون من كبار الجماعة. أكاد أقسم لك، يا ولدي، أن أعواما طويلة مرت علينا هنا ولا يوجد في القرية من غيرها مئة ورقة قرأتها.. أيضا بالتكرار مئة مرة.

يا ولدي الغالي، نعم أحب المكان، ولكنني أكره فيه آلام (الفقر المعرفي) الذي أضاع من عمري أول عقدين من الزمن، ثم خرجت منه بعد 19 سنة إلى ما تبقى من أبواب الحياة وكأنني (خديج) بعقل معاق في عوالم القراءة والمعرفة.

يا ولدي، سأختصر لك الحكاية: في مكتبتي اليوم آلاف الكتب، وفي بيتي أيضا اليوم محركات البحث الإلكتروني التي تسمح لي بدخول مكتبات هارفارد وأكسفورد وأنا (سادح) على الكنبة. لكن إحساسي الدفين، يا ولدي، أن كل هذا التدفق قد جاء إلينا وأنا أصارع وأقاوم ذاكرة مثقوبة فيما بعد سن الخمسين. كنت أتمنى لو أنها كانت أمامي ذات زمن كنت فيه (ماسحة ضوئية) في قرية أضاعت من حياتي المعرفية والفكرية ما يصل إلى عشرين سنة من مهد الذاكرة.

نعم يا ولدي، هنا ولدت بين هذه المداميك، ولكن عقلي لم يولد إلا في (كلورادو) الأميركية.