من الطبيعي أن تدور جل الأحاديث في مناسباتنا الخاصة والعامة عن داعش، ومن الطبيعي أيضا أن يكون الحديث عن هذا التنظيم حاضرا في كل وسائل إعلامنا، فقضايا التطرف والإرهاب، والانغلاق والغلو، لا بد أن تكون مصدر القلق الذي يؤرقنا، ولا بد أن تبرز في مقدمة اهتماماتنا، وأن تكون على رأس أولوياتنا.

كثر الحديث حول داعش، وتركز هذا الحديث حول إرهاب التنظيم ووحشيته، ووصف تخلفه ورجعيته، وتشعب حديث الإعلام عن مصادر تمويل التنظيم وإعداده، وتفرع إلى طموحاته التوسعية، وإمكانية فرض التنظيم كواقع مستقبلي في هذا الإقليم المضطرب، خاصة مع شيوع نظرية الشرق الأوسط الجديد.

لكن ما يثير العجب والدهشة معا في موضوع صناعة "داعش"، هو ما يروج له البعض من أن التنظيم مجرد صناعة استخباراتية أميركية، هدفها زرع الفتنة الطائفية وتقسيم المنطقة، وهذا الادعاء مجرد تسطيح فارغ لأعقد قضية تواجهها الشعوب العربية وأنظمتها.

فعند ظهور كل أزمة عربية، أو ثورة شعبية، تظهر شماعة الاستخبارات الأميركية لنعلق عليها كل إخفاقاتنا، وكل أزماتنا السياسية، وكل أمراضنا الثقافية. علقنا على هذه الشماعة غزو صدام للكويت، ثم علقنا عليها ثورات الربيع العربي، وها نحن الآن نعلق عليها وجود "داعش" وأشباهه من تنظيمات الموت.

قد يحتج البعض بتصريحات جيمس وولسي رئيس الاستخبارات الأميركية الأسبق، عندما قال في 2006: "سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا ثم نجعلهم يقومون بالثورات.. قادمون للزحف وسوف ننتصر".. فهل الثورات العربية، وهل الأنظمة التي سقطت، وهل ظهور التنظيمات المتطرفة؛ تعد من صنع الغرب فعلا؟ ألم يتبن برنارد لويس وغيره من مفكري الغرب في بداية الثمانينات مشروع تقسيم المنطقة ليباركه المحافظون الجدد قبل أكثر من عقد من الزمن؟ ألم يشر صمويل هنتنجتون في "صراع الحضارات" إلى ضرورة أن تحمي الحضارة الغربية نفسها من أعدائها الجدد؟ ألم يشر فوكوياما في "نهاية التاريخ" وإن كان بشكل آخر إلى ذات الفكرة التي روج لها هنتنجتون وأنه لا سبيل إلى رقي بشري أبعد مما وصلت إليه الحضارة الكونية الآن بنسختها الديموقراطية الغربية؟

ينبغي أن نعلم جيدا، أن برنارد لويس -مثلا- لم يكن في البداية إلا قارئا نهما للتاريخ، وينبغي على هذا الأساس أن ندرك جيدا أن برنارد لويس وأشباهه من المؤرخين والمنظرين الغربيين، وأولئك القابعين في مراكز الدراسات الخاصة بالمنطقة، قد قرأوا تاريخنا العربي الإسلامي وألموا به إلماما واسعا، مثلما قرأوا التاريخ الغربي أيضا وألموا به إلماما واسعا، وأن هؤلاء المؤرخين يرون هذا الشرق الأوسط -مع مراعاة بعض الاختلافات- يمر بذات التجربة التي مرت بها أوروبا في القرون الوسطى. يرون الاحتقان الطائفي، ويرون الكهنوت الديني، ويرون التخلف العلمي، والظلم والاستبداد السياسي، يقع في إقليمنا هذا مثلما وقع في أوروبا العصور المظلمة. ومنذ السبعينات؛ أدرك برنارد لويس وغيره أن المنطقة ستنفجر حتما، فالأوضاع السياسية والثقافية تمضي بها إلى هذا المصير.. ثم ماذا؟! ثورات شعبية لا مناص عنها، واحتراب طائفي يأكل الأخضر واليابس، وفوضى سياسية في أوطان متهالكة.. من هنا أدرك برنارد لويس مثلما أدرك جيمس وولسي؛ أن على أميركا أن تتنبه إلى مستقبل المنطقة، وإلى مآلاتها التي هي ذاهبة إليها، وأنه لا بد من (إدارة) هذه الفوضى حتى لا تتعرض مصالحهم للخطر. ففي أميركا وأوروبا عرابون للتاريخ، عرافون لأحداثه ومسيرته، تساعدهم في ذلك مراكز البحوث المتخصصة، ولا ننسى أن (علم الإدارة) علم أميركي خالص، وأن هذا العلم يسير حياة الفرد الأميركي الخاصة مثلما يسير حياته العامة، بل انظر إلى هذا الوصف لفريق الرئيس الأميركي: (إدارة أوباما) وهو الوصف الذي لا ينطبق على أي فريق رئاسي آخر، حتى في العالم الغربي.

إذًا فالغرب تنبأ بما يحدث الآن في منطقتنا، ورسم صورة مسبقة وصحيحة لمسار تاريخي لم يستطع عالمنا العربي العدول عنه، وهو فقط يحاول (إدارة) هذه الفوضى بما يلائم مصالحه.

ومن هنا أيضا نستطيع القول: إن "داعش" منتج عربي إسلامي بالكامل، وبلا ذرة شك، وإنه كان نتاج قرون عدة من التخلف الحضاري، والفقر المعرفي، والجمود الفقهي، وتداخل الديني مع السياسي، وسطوة ثقافة الغلبة والقوة مقابل انعدام ثقافة الحوار. وينبغي أيضا أن نضيف إلى الأسباب السابقة سببا آخر لا يقل أهمية عنها، وهو فشل مشاريع التنوير العربي التي أجهضها العسكر في منتصف القرن الفائت، ثم فشل مشاريع العسكر ذاتها والتي تحمل الأيديولوجيا القومية، بشقيها الناصري والبعثي، لتنفرد الأصوليات الدينية بعد ذلك بالساحة الثقافية العربية.

لكن: لماذا تحاول بعض النخب -خاصة الدينية- الترويج لأن تكون "داعش" صنعت بأعين الاستخبارات الأميركية؟

الجواب؛ أن هذه النخب تهرب من مسؤوليتها التاريخية، تهرب من لحظة المواجهة الحاسمة مع أخطاء التراث الديني وكوارثه، تهرب من محاولة القراءة الجديدة لفتاوى الجهاد، وتكفير المخالف، وقضية الخلافة، واستباحة الدماء، والتعايش بين الأديان والمذاهب.. ويكفينا القول: إنه لم يظهر رجال الدين -في القنوات الفضائية مثلا- ليعرضوا على الناس فتاوى وأفكار الدواعش ثم يردوا عليها بالحجج والبراهين، ويبينوا للناس الحق في مذهب التنظيم الباطل، ولم نر حتى الآن كتبا لرموز دينية عربية تعري فكر الدواعش وفتاواهم وأدبياتهم، بينما لا تزال كتب النقاب تتصدر رفوف مكتباتنا! ولكن.. لماذا الدخول في هذه المعمعة، وفي هذا الصداع، وفي هذا النبش التراثي والفقهي وما يستلزمه من تنظيف وتعقيم ومسح شامل للأتربة والعوالق التي طمرت تحتها جوهر هذا الدين؟! يكفي هذه النخب والمؤسسات الدينية أن تشجب وتستنكر ما يفعله الإرهابيون، وبعد ذلك تستدعي الاستخبارات الأميركية لتحملها مسؤولية صناعة التنظيمات المتطرفة!