ونحن نحتسي فنجانا من القهوة المرة، أخبرتني بمرارة ما عايشته في بلدها الكويت عندما ارتكب صدام حسين خطأه التاريخي الأعظم في حق الأمة العربية، هي التي عاشت في كنف أب كويتي وأم عراقية، استيقظت يوما لتجد العالم قد تغير من حولها، ولتبصر المبادئ والقيم وهي تسقط إلى عمق الهاوية.

ما عساها تفعل وهي تراقب بعينيها الصغيرتين آنذاك أخوالها وقد استباحوا أرض أعمامها وأعراضهم، تستكمل روايتها بعد رشفة ثانية، لتخبرني بأن ربع قرن على ذكرى الغزو لم يكن كافيا ليلتئم الجرح، وعلى الرغم من سنوات على رحيل النظام العراقي بكل أركانه، لا تزال هناك غصة في نفوس الكويتيين عند ذكر اسم العراق، رغم أنهم لم ينسوا يوما ذكرياتهم الطيبة مع هذا البلد وشعبه، حتى إن أشرطة الأغاني العراقية القديمة كما تقول كانت تهرب سرا بين الكويتيين إلى وقت قريب.

المشهد يبدو مشابها على الضفة الأخرى، لاسيما في مدينة البصرة وضواحيها، تلك المدينة الباسقة كنخيلها كانت تنتظر الكويتيين في نهاية كل أسبوع، لتحتضن جلسات سمرهم الجميلة في استراحاتها ومزارعها التي تمتد على طول الطريق المؤدية إلى منفذ صفوان الحدودي، هناك على المعبر حيث ازدهرت حركة التجارة وبلغت أوجها بين البلدين في السبعينات والثمانينات، واختار العديد من العراقيين الكويت كبلد للإقامة والعمل، وكانوا الأقرب إلى قلوب أبنائها.

كيف يمكن للشعبين تناسي الحركة الثقافية التي جمعتهما معا، وجعلتهما يحملان مشعل التنوير في منطقة الخليج على مدى سنوات، فالعراقيون يستذكرون حتى اليوم مسرحية "باي باي لندن" التي عرضت على خشبة أحد مسارح بغداد، وفي أحد مشاهدها كان يصدح الفنان الكويتي عبدالحسين عبد الرضا بأغنية المطربة سميرة توفيق الشهيرة: "ويلك ياللي تعادينا يا ويلك ويل"، كان ذلك مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، وكان العراق بالنسبة للعرب آنذاك حامي البوابة الشرقية وبابها الموصد في وجه رياح الثورة الإسلامية الإيرانية، وكانت رسالة الفن الكويتي تحمل في طياتها أسمى معاني الأخوة والتلاحم العربي.

تذكرت في هذه اللحظة زميلي الفلسطيني على مقاعد الدراسة في الأردن، وهو يخبرني كيف أبعد مع عائلته من الكويت إلى عمان عشية إعلان موقف السلطة الفلسطينية المؤيد لغزو الكويت، وكيف أنه وهو ابن التاسعة قد اضطر للمبيت مع عائلته المكونة من ستة أفراد داخل سيارتهم الصغيرة لثلاثة أشهر متتالية، حتى تمكن والده المعلم البسيط من إيجاد مأوى ومصدر رزق جديد لعائلته في الأردن.

كنت صغيرة في ذلك الوقت ولم أتمكن يومها من فهم لعبة السياسة وكيف يمكن لحكومات أو أنظمة معينة التلاعب بمقدرات شعوب بأكملها والتحكم بمصيرها، ورسم ذاكرة من الألم المتجدد على جدران حاضرها، لتخلق بينها فجوات عميقة لا يمكن للتاريخ أو الجغرافيا ردمها بسهولة.

مع الأسف.. فإن الجرح لا زال عميقا في خاصرة الأمة العربية جمعاء، وحاضرا في مخيلة جيل كامل عايش تلك الحقبة السوداء، والفخ الذي نصبه الغرب لصدام ووقع فيه بكل سذاجة، ها نحن نستجر ويلاته حتى يومنا هذا، ولا أذهب بعيدا حين أقول: إن مخططات تقسيم المنطقة واللعب على وتر طائفيتها قد انطلقا منذ ذلك الصباح المشؤوم، وإن حالة التشرذم التي عاشتها وتعيشها أمتنا العربية قد بدأت منذ أن استطاع الذئب زرع بذور الحقد والعداء بين الثيران الثلاثة، حتى تمكن من كسر شوكتهم واستفرد بهم، الواحد تلو الآخر، والقادم أدهى وأمر.