ليس هناك شيء قادر على إحداث تغيير حقيقي وربما أبدي في أي مجتمع مثل تغيير التركيبة السكانية. بحيث تتغير المعادلة وتتغير موازين السلطة فتصبح الأكثرية أقلية مع مرور الزمن وتصبح عاجزة عن التحكم في مجريات الأمور ويمسك المهاجرون الجدد بجوهر الحياة. على سبيل المثال ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية من نزوح أوروبي وأفريقي جعل من السكان الأصليين أقلية لم يعد لها دور في الشؤون العامة في البلاد. وأمثلة التاريخ كثيرة لعل من أوضحها لنا هجرة أهل الجزيرة العربية للشام والعراق ومصر والمغرب العربي وما أدى له ذلك من استقرار عربي شبه أزلي.
هذه القضية، أي التغيير في التركيبة السكانية، تشغل الكثير من السياسيين والمفكرين الأوروبيين والغربيين عموما. حيث إن نسبة المسلمين ترتفع في أوروبا يوما بعد يوم من خلال نسبة الولادات المرتفعة عند المسلمين مقارنة بنظيراتها عند الأوروبيين. ومن جهة أخرى استمرار الهجرات الشرعية وغير الشرعية من دول شمال أفريقيا وتركيا لأوروبا. الخوف يكمن في التالي: في الوقت القريب سيصبح المسلمون غالبية في أوروبا وعندئذ سيقومون بتغيير قوانين أوروبا ويطبّقون الشريعة الإسلامية بدلا عنها. وسيصبح أهل الأرض الأصليون أقلية ومواطنين من الدرجة الثانية بسبب انتمائهم لدين آخر أو بسبب عدم تدينهم. تتصدر وجهة النظر هذه عدة خطابات أوروبية: سياسية محافظة، سياسية ليبرالية تقدمية، دينية. وكل خطاب يطرح في ذات الوقت تصوره للحل فالسياسيون المحافظون يطالبون بوقف الهجرة وطرد المقيمين غير الشرعيين والتضييق على الحدود لوقف النزح الإسلامي. من جهتهم يقدم السياسيون والمفكرون التقدميون تصورا مختلفا يهتم بإعادة تنوير أوروبا من خلال إصلاحات قانونية وتربوية تراجع وتؤكد على قيم الحرية والعقلانية والعلمنة وحقوق الإنسان باعتبارها القيم التي ستكفل للجميع العيش في سلام. تصور هذا الطرف للمشكلة يتمثل في أن الأجيال الحالية من الشابات والشبان الأوروبيين بعيدي عهد عن تأسيس أوروبا الحديثة وهم أقل وعيا بمرتكزات حياتهم الحالية ومبادئها الفكرية. إعادة الاعتبار لهذه القيم في التعليم والتربية والفضاء العام والنقاشات الأكاديمية هو مخرج أوروبا من مأزقها الحالي. وكما يقول المفكر الهولندي Ian Buruma في كتابه الأخير "الدين والديمقراطية في ثلاث قارات" فإن التنوير الأوروبي كان موضوعا أكاديميا ولكنه اليوم يعود للساحة بوصفه ضرورة ملحة. الطرف الثالث الطرف الديني المتطرف يتكئ على مفردات دينية تعيد للصورة صور الصراع الحربي بين المسلمين والمسيحيين.
في الأسبوع الماضي كنت أستمع للقس تري جونس الذي هدد بحرق القرآن ولم يفعل. كان القس ضيفا في حوار إذاعي حول علاقته بالإسلام. شخصيا شعرت كأني أسمع لأحد متطرفي المسلمين. فكل الناس بحسب جونس سيذهبون للجحيم ما عدا المسيحيين. ومهمة المسيحيين هي نشر المسيحية في العالم وكل فكر غير فكر كنيسته الخاصة هو فكر ضال وفاسد وسيؤدي بالعالم للهلاك. جونس قلق على أوروبا ويعتقد أن الحل يكمن في عودة أوروبا الضالة للمسيحية الحقة. هذا الخطاب رغم شعبيته المحدودة جدا إلا أنه يأخذ وقوده من مواقف المتشددين في الدول ذات الغالبية الإسلامية فكلا الطرفين يحلمون بعالم خال من الآخر أو على الأقل بآخر خاضع وتابع ولا يتمتع بحقوق المساواة والمواطنة. وبعيدا عن المبالغات السياسية واستغلال القضية لأهداف قريبة إلا أنه لا يمكن تجاهل هذه الأزمة الحادة ففي عصر التقنية والتواصل السريع فإنه لا يمكن عزل مشاكل الدول الإسلامية عن المسلمين في العالم، خصوصا القريبين جغرافيا في أوروبا. اليوم الدول الإسلامية تقف فوق صفيح ساخن من الصراع الطائفي. فالصراع السني الشيعي يرتفع يوما بعد يوم في بؤر ساخنة جدا كتلك في العراق ولبنان. نسبة الثقة المتبادلة منخفضة جدا رغم التصريحات الرسمية. حالة التوتر هذه جاءت نتيجة شبكة من الظروف من أهمها التاريخ الطويل من الصراع المذهبي في الإسلام الذي يوقد اليوم بشحن مذهبي مورس على طول العقود الثلاثة الأخيرة. من طرف آخر عدم الاستقرار السياسي في غالبية دول المنطقة باعتبار أنها دول حديثة في ظاهرها ولكنها تنتمي للعصور الوسطى في حقيقتها مما يجعلها غير قادرة على فتح طريق مستقبل لشعوبها المتزايدة يوما بعد يوم عددا وفقرا وجهلا وتطرفا.
هذه الأزمات في العالم الإسلامي ترتد على المسلمين في أوروبا الذين تتسبب أزمات مجتمعاتهم الأصلية في اختناقات حادة مع الطرف الذي يقدم دائما في العالم الإسلامي على أنه سبب البلاء: الغرب. الصوت العالي لدى المسلمين هو الصوت الذي يرسم حدود هوية فاصلة وحادة بينهم وبين الغرب. الصوت الذي يعتقد أن الخطر الحقيقي الذي يهدد مسلمي أوروبا هو اندماجهم في العالم الغربي وفي أفكار الديموقراطية والمساواة والعلمنة وحقوق الإنسان.
ومن هنا فإنه يمكن القول إن حل أزمة الإسلام في أوروبا تكمن في حل أزمة المجتمعات الإسلامية ذاتها.الجاليات الهندية والآسيوية لا تعاني أزمات حادة في أوروبا باعتبار أنها قادمة من مجتمعات استطاعت التأقلم مع العالم الحديث وتخلصت من مقولات الصراع مع الآخرين المختلفين عنها. أفراد هذه الجالية يعيشون في الغرب بنسبة جيدة من الانتماء والتواصل والإنتاج. في الجهة المقابلة وفي عالم غارق في أزماته الاقتصادية المتراكمة تزداد المناطق الإسلامية اشتعالا وتوتر وقلقا لا يعلم أحد كيف ستكون نتائجه. هل سينفجر الجرح الإسلامي مدمرا أم أن عقلاء العالم سيساهمون في تجنيب البشرية الكثير من المخاطر ويساعدون في حل هذه الأزمة الحقيقية. الأكيد حتى الآن أن الوعي بهذه الأزمة خصوصا في العالم الإسلامي لم يصل بعد إلى مرحلة جادة ومبشرة بالحل.