في مؤتمر "الإعلام الجديد - السياسية البدلية: تقنيات الاتصال والتغيير السياسي في أفريقيا والشرق الأوسط" الذي أقيم في جامعة كامبريدج الأسبوع الماضي عُرضت عدة أوراق بحث تناولت التأثيرات السياسية للتقنيات الحديثة ووسائل الاتصال المختلفة في المنطقة. وقد اتفق الباحثون مع الحضور على أن مسمى الإعلام الجديد لوصف الإعلام المتحرر من سلطة الدولة أو المؤسسات الإعلامية ليس دقيقاً، فما هو جديد تقنياً اليوم سيغدو قديماً غداً، وما هو جديد في بقعة ما ربما ليس كذلك في بقعة أخرى. ولذلك طُرحت المصطلحات الأخرى التي تستخدم كمرادفات لمصطلح الإعلام الجديد مثل الإعلام التفاعلي (Interactive Media) أو الإعلام الاجتماعي (Social Media) أو إعلام المواطن (Citizen Media)، مع اعتراف الجميع بصعوبة الوصول إلى تعريف جامع يغطي كافة التصورات الذهنية التي تتشكل لدى المرء حينما يتحدث عن هذا النوع من الإعلام.

فالكثير من الإعلاميين المخضرمين أنفسهم ما زالوا غير مستوعبين لهذه الفكرة تماماً. فبعضهم يعتقد أن مصطلح الإعلام الجديد يقصد به الأدوات التقنية والبرمجية الحديثة مثل المنتديات والمجموعات الإلكترونية والفيسبوك وتوتير واليوتيوب والمدونات وغيرها من تطبيقات الجيل الثاني من الويب. فإذا أنشأت جريدة ما حساباً على الفيسبوك فهي تعتبر بأنها الآن تمثل الإعلام الجديد من دون أن يتغير المحتوى الإلكتروني عن النسخة الورقية. والحقيقة هي أن هذه التقنيات الرقمية الجديدة ليست سوى أدوات مكّنت الأفراد كما الجماعات المستقلة من الوصول إلى الجمهور بحرية، وأتاحت للجمهور بدوره أن يساهم في صنع الخبر ونشر المعلومة. فلم يعد الحديث عن مرسل ومستقبل كما هو الحال في قارىء الجريدة الورقية مثلاً، بل عن تدفق للمعلومات في جهتين بشكل تفاعلي ودون فلترة رقابية تقريباً. فمتى وُجدت الوسيلة التي تتيح ذلك فيمكن تصنيفها من ضمن هذا الإعلام الجديد حتى لو كانت الراديو أو الهاتف المحمول.

معظم الأوراق المقدمة كانت تتحدث عن كيفية قيام المواطنين باستخدام التقنيات المتاحة من أجل تقديم إعلام يعتبرونه صادقآً ومستقلاً وقادراً على إحداث تغيير إيجابي في مجتمع ما، وعن إعلام يروي قصص الناس الحقيقيين لا إعلام ليس له هم إلا تتبع الزيارات الحكومية والحفلات الرسمية، باستثناء ورقة بحث واحدة. فالورقة التي قدمتها الباحثة الإسرائيلية (د.آدي كونتسمن) من جامعة مانشستر كانت بعنوان ( Another War Zone: Digital Media and the Israeli-Palestinian conflict) وترجمتها (ساحة حرب أخرى: الإعلام الرقمي والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني) تحدثت عن حلقة أخرى من حلقات الصراع التاريخي الطويل تدور رحاها على الشبكة وتستخدم فيها كافة الإمكانيات البشرية (مخترقي الأنظمة البارعين : الهاكرز) والتقنية مقاطع الفيديو والشبكات الاجتماعية وغيرها. وهي حرب كانت متأثرة في البداية بما يجري على الأرض ولكنها باتت اليوم إحدى وسائل تغذية هذه الحرب الأرضية، فلها تأثير لا يمكن تجاهله على ما يحدث في أرض الواقع، ولعل أحد الأمثلة هو ما حصل لقافلة الحرية التي انطلقت من أوروبا لكسر الحصار على غزة، فالناشطون الإسرائيليون على الشبكة كانوا يشددون على حكومتهم بأنه لا بد من التصدي لها بقوة. وأكثر ما يلفت الاهتمام هنا هو دخول الدولة الإسرائيلية على الخط، فبالرغم من تأكيد الباحثة من أن الكثير من المتطوعين يقوم بالدفاع عن إسرائيل ومصالحها الخاصة من تلقاء أنفسهم، فإنه من الثابت أيضاً أن الدولة الإسرائيلية تجند متطوعين متخصصين للقيام بهذه المهمة، وتحرص على أن يتحدثوا بلغات مختلفة، والباحثة لأنها تتقن اللغة الروسية فقد استطاعت أن تتواصل مع بعض هؤلاء وتتابع ما يقومون به باستخدام اللغة الروسية. فماذا يعني ذلك؟

لو أخذنا الموضوع في أبسط صوره الممكنة فإنه قد يعني أنك حين تقرأ تعليقاً على خبر ما في موقع إخباري أو صحيفة إلكترونية أو مقطع فيديو في موقع اليوتيوب وتجده مناصراً لإسرائيل، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها فقد تكون العربية، فهناك احتمالية معتبرة ألا يكون هذا الشخص مستخدماً عادياً مثلك يعبر عن رأيه كما تفعل، بل شخصاً مجنداً من قبل أجهزة إعلام ومخابرات دولة للقيام بهذه المهمة. وهو أمر لو قيل لمعظمنا قبلاً لوضعناه في خانة نظرية المؤامرة.

نقطة أخرى جديرة بالاهتمام، هي أن الدولة التي زورت التاريخ والجغرافيا لا تجد غضاضة في ممارسة بعض التزوير على الشبكة، فهي لا تمانع من استخدام تقنيات الفوتوشوب لتعديل الصور كما يناسبها، أو حتى بث تسجيلات صوتية كاذبة تظهر عرباً يشتمون اليهود بشكل عنصري ويدعونهم للعودة إلى معتقلات النازية وذلك في معرض التبرير لما حصل لسفينة الحرية، ليتبين لاحقاً أن الصوت مفبرك وأن التسجيل مزور.

فحتى في زمن ما يسمى بالإعلام الحر فإنها مازالت ثمة أيد خفية تتحرك من خلف الستار، فالحرية إذن نسبية.

وفي الوقت الذي استغلت فيه إسرائيل حماس شبابها الناشط والمؤهل تقنياً فجندتهم وشجعتهم على مواصلة القيام بما يخدم مصالحها، فيكونون أشبه بجنود الاحتياط في المعركة جاهزين لخدمة الوطن، فإن هناك دولا عربية قامت بزج ناشطيها الشبكيين في السجون. ولعل قضية الأخت المدونة طل دوسر الملوحي خير مثال على ذلك. فقد تم إلقاء القبض عليها في 27 ديسمبر 2009، ولم تقدم للمحاكمة بعد. المثير للدهشة أن من يطلع على مدونة طل سيجد أنها مدونة لا تتحدث عن شيء سوى عن فلسطين والقدس، وتدافع عنهما شعراً ونثراً، ولما كانت دولة المدونة طل من دول الصمود والتصدي ولم توقع معاهدة سلام مع إسرائيل، فلا نفهم إذن لماذا تُسجن فتاة تتبنى نهج الدولة نفسه الذي تبثه وسائل الإعلام الرسمية؟

في صراعنا الطويل مع إسرائيل كثيراً ما حملنا إخفاقاتنا على شماعة المساعدات الأمريكية.. مادياً بالمال والسلاح ومعنوياً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا مما لا شك فيه، ولكننا كثيراً ما نتغافل عن عنصر آخر وهو أن الشعب الإسرائيلي له حرية التعبير وممارسة العمل السياسي، في حين أن الوضع ليس كذلك على الجانب العربي. ففرق بين دولة تشجع شبابها على الدفاع عن قضاياها وآخرين يعتقلونهم لقيامهم بذلك، فكيف يحرر مسجون المساجين؟