كم كان مؤلما ونحن نسمع ونرى خلال الأشهر الماضية ما يحدث من خيانة للوطن والدين واغتيال للإنسانية في بيوت الله بحجج واهية في مناطق مختلفة من وطننا، ولكن الألم هذه المرة أبلغ والجرح أعمق وأكثر إرباكا. وآخر عمل إرهابي في مسجد يرفع فيه اسم الله يبعد بضعة كيلومترات فقط، ويحصد إثما أرواحا بريئة نتشارك معها، فضلا عن الإنسانية والوطن والدين، نفس المدينة والاسم والملامح.
تُفجع أبها، ربّة الجمال وربيبة الغيم والشعر والمطر، بتناثر أشلاء أبنائها وهم يرتدون رداء الواجب وييممون وجوههم نحو الله في محرابه. أبها غادة الجنوب التي طالتها ككثير من مدننا بشاعة "الصحوة"، وفجاجة التدين الظاهري، فأبدلت بساطة الناس وتلقائيتهم لترقّب حذر من الآخر، وادعاء للأفضلية المطلقة، وألبست في أذهانهم مفهوم الوطن، وشوهت صورة السلام الذي يحط كحمامة بيضاء في نفوس المؤمنين تلهمهم السكينة، ونزعت مع الوقت إنسانية الإنسان، دينه الأول ومذهبه، واستبدلت بقيم الحب والجمال والفن الكراهية والعويل والاختباء تحت ظل الموت.
وحتى نبتعد عن حديث العاطفة التي تغلي في صدورنا غضبا وحزنا على ما وجدنا عليه "أبهانا" مؤخرا، فإن علينا أن نكون أكثر صدقا في تسمية الأمور بأسمائها، والغوص كما يجب بوعي في عمق المشكلة، والاكتفاء من التخاذل الذي يقود الوطن والإنسان نحو هاوية الدمار، ويجعل مع الوقت روائح الدم المغدورة أمرا مبررا ومستساغا لو لم نحقنه بالحكمة.
لم نكن نستبعد أن تتكرر عمليات (الدالوة والقديح والدمام)، بل ننتظرها مع كل أسف ووجل بعيد كل صلاة جمعة. ما حدث هذه المرة أنه أتى في توقيت مختلف، وفي جهة أبعد قليلا، وبصورة تختلف في هدفها الذي أوهموا البعض به؛ ليكسبوه شرعية مزمعة وتعاطفا مقيتا بأنها ضد طائفة معينة، ووقعت بين أفراد نذروا أنفسهم للوطن خدمة وإعلاء وحماية.
كنا نعلم أن الفكر الذي خلق داعش، ومن قبله القاعدة وجهيمان، ما زال موجودا ومنتشرا ويسكن الكثير من العقول كيقين مطلق، ونعلم أنه يخبط كالعشواء بيننا، ويقتل أبناءنا بأبنائنا، ويجر وطننا نحو هاوية ضياع، ومع هذا نصمت وننتظر اللاشيء، وفي أحسن الأحوال نصدر بيانات رسمية نستنكر وندين ونتوعد، فيما من كان يقود مثل هذا الفكر ويدعو له يتلون حسب ما تقتضيه مصلحته ومرحلته، أو يطلق تبريرا ينطوي على رضا وتأييد مبطن. وآخرون يتبادلون التهم ويمجّون الأسباب ويسطحونها ويخرجونها خارج حدود مسؤولية الجميع.
في مقال لم يمض عليه أكثر من شهر من الآن، ذكرت أننا ينبغي أن نتعامل مع داعش -وهي نموذج هذه المرحلة للإرهاب- بجدية كمشروع، وأن من أهدافها تأجيج الطائفية بضرب أصحاب المذاهب ببعضهم بعضا، وإرباك الوطن بقتل رجال الأمن. يحدث هذا تحت شعار الدين وبملامح التدين، وباستخدام نفس الأساليب التي تربى هذا الجيل عليها، وعدها من مسلمات الدين، وأسباب نيل الشهادة والحصول على الجنة، ونصرة الإسلام؛ ولكي نواجه هذا المشروع علينا أن نعد له مشروعا يكافحه، يفوقه بالقوة والذكاء، ويصدق في تشخيص المشكلة وأسبابها، وتسمية من كان سببا ودافعا لرواج مثل هذا الفكر وإشاعته بين الناس، وتعريته بالحجة والفكر. يعده ويشارك فيه ليس فقط الجهات الأمنية، بل نخبة من المفكرين والمثقفين والمتدينين المعتدلين.
بالعودة لمبدأ البحث في "أصول الأشياء" ومعرفة الأسباب الأعمق للأمور، فإن الوصول لسبب هذا التحول الخطير في تفكير هذا الجيل والذي يسبقه سيُلامس منطقة "اللا مفكر" فيه في الدين الإسلامي، وفي سياسات المنطقة وتكوينها الاجتماعي والنفسي. قد يكون الحديث صادما لو أطلق هكذا على عواهنه، وقد نتناوله في مقبل الأيام، ولكننا نستطيع أن نوصله للأجيال برفع وعيهم وإحساسهم بالمسؤولية، وحثهم على التأمل في الواقع وشرح أسبابه، وتحريضهم على الاطلاع والقراءة في الفلسفة وتاريخ الأمم السابقة، وتشجيع ملكة التساؤل والبحث، لا التسليم المطلق والخضوع التام خلف رمز أو اسم أو قيمة تحتمل الصواب والخطأ.
حتى لا نبكي مدينة أخرى تفقد أبناءها في قادم الأيام، على الأسرة، خط الدفاع الأول، أن تراجع تفكيرها وقيمها التي قدمتها لأبنائها، وأن تحتويهم ولا تنشغل بالقشور عن جوهر روحهم المتعطشة للجديد والمثير، وتفهمهم أن الإسلام دين حياة ومحبة وسلام، لا دين موت واقتتال وكراهية، وعلى وزير التعليم أن يدرك أن مسؤولية كبيرة تقع على كاهل وزارته ومنسوبيها، فالمحرضون والمتعاطفون بيننا، والمتلقفون والمنفذون من أبنائنا، ولن يأتي التنوير والوعي والحداثة إلا من خلال مؤسسات التعليم ومناهجها ومنسوبيها. كما أن تجديد الخطاب الديني مهمة عظيمة وحساسة على الوزارات المعنية أن تبدأ في تنفيذها فورا، فلم تعد صورة الشيخ النمطية التي يبحث معها عن عدد يرضي نرجسيته من الأتباع والمريدين، ويمنح نفسه فيها الكمال والصلاح الذي يسلبه من الآخرين حسب مقاييس شكلية أصبحت معيارا للتعامل بين الناس، لم تعد تجدي أمام هذه الحرب الشعواء، ولا صوت الخطباء العالي وصراخهم على المنابر يكفيان في التوعية والتأثير.
قضيتنا مع الإرهاب أكبر من أن يكفيها مقال واحد، وجهد فئات معينة ونشاط أمني مجرد. إنها قضيتنا جميعا اليوم، وعلينا أن نخلص فيها لواجبنا تجاه الإنسانية والوطن والدين.
رحم الله شهداء أبها، وعافى مصابيها، وجبر مصاب ذويهم في فقدهم الموجع، ومصاب الوطن في أبنائه.