ليس أعظم روحانية وخشوع من وجودك أمام بيت الله الحرام، في تلك اللحظات التي تشعر أنك خارج مدار الزمن، وروحك تناجي ربها في توحد ينسيك اللحظة فلا تشعر بمن انشغل بمراقبة خطواتك وطريقتك في إظهار توددك لخالقك وخضوعك له، ولأن كل فعل يصدر عنك باعثه كمية الخشوع التي يغشاك، فتحسب أنه ينسكب في قلوب الموجودين معك أيضا؛ لينشغلوا برب البيت عنك وعن غيرك.
ووسط ذلك الإحساس بأنك مع خالقك فقط، يصدمك الواقع بوجود من فرغ نفسه؛ ليرصد حركاتك وسكناتك وحتى عبارات الدعاء التي يلهج بها لسانك، فتخرج عفوية بسيطة لا جناس ولا سجع فيها، يقاطعونك ناصحين ومصححين، فقربك من الكعبة مخالف وتقبيل الحجر بدعة، ورفع اليدين بالدعاء فتنة، فساعد اليد ينكشف عنه الغطاء والصوت يفتن الرجال، وسيل من المواعظ التي تربكك وتقطع عليك خلوتك، فتحتار هل تحتسب وتسكت، أم تدخل مع هؤلاء في جدال عقيم لا طائل منه؟ خصوصا وهم يضيقون عليك في حرم الله الطاهر الذي تصفد فيه الشياطين لتحضر كلك في هذا الموقف الجلل.
ولكن هل تصفد عند هؤلاء الذين لا يرون في الإنسان إلا مواضع الفتنة، حتى وهم في حضرة الله ليضيقوا عليه الخناق؟ ألا تخشع جوارحهم وترق وهم بجوار بيت الله العتيق؛ فيحسنوا الظن بالمسلمين، ويتركوا لتلك الأفواج المقبلة من أقاصي الأرض فرصة للتلذذ بروحانية القرب من البيت المعمور؟ كل هذه التساؤلات تدور في ذهنك وأنت تحصي عدد المحتسبين رجالا ونساء من أهل البلد ومن غيرهم وافدين امتهنوا الاحتساب للكسب فقط، وكلهم يبذل قصارى جهده لتشتيت فكر المسلمين هناك، وهم يخترقون الصفوف ويتخطون الرقاب الخاضعة ليحظوا بصيد ثمين!
مسلم يقبل الحجر، وآخر مع خالقه يعلن التوبة ويشكي له الحال وسط نحيب يقطع نياط القلب، ليسكته ذلك التقريع واللوم على ما يفعله من مخالفات شرعية افتوا بها، وإن كان الكثيرون لا يستجيبون لهم، إلا أن البعض ممن تضعف معرفتهم بالأحكام الشريعة ينسحبون خوفا من ارتكابهم ما يخالف.
ما هو مؤكد أن أمر هؤلاء معلوم، لكن لا أحد يحاسبهم أو يمنعهم من أذية المسلمين الذين لا يشغلهم إلا الوسيلة التي توصل خضوعهم إلى خالقهم، ويتوسلون الحرية في تركهم وشأنهم دون التطفل على خلواتهم وتخطئة أفعالهم.
الملاحظ أن المسجدين -المكي والنبوي- يكتظان بمحتسبي الفزعة من جنسيات وأجناس مختلفة، كل له رأي وفتوى، وأنت ليس لك إلا أن تذعن وتمارس عباداتك في أضيق الحدود، ومرارة تقطع قلبك أنّ هناك من جعل من نفسه حجابا يمنعك الوصول إلى أقصى درجات الخشوع والخضوع مع ربك.