الاعتذار سلوك أخلاقي باعتبار أن فيه شعورا بحق الآخر على الذات والتزاما بهذا الحق عليها. الاعتذار أيضا شعور بالخطأ وفيه خضوع وانكسار لمن تم هذا الخطأ في حقه. هذا الخضوع والانكسار يفترض أن يكون مقبولا من ذات المعتذر باعتبار أنه قد أحدث ألما في نفس الشخص الآخر، وأن هذا الألم يجب أن يكون له مقابل. بمعنى آخر الاعتذار مشهد تتحقق فيه أولوية الآخر على الذات. الآخر هو موضوع الاعتذار وهدفه الأساس وليست الذات. ولكن هذا لا يحدث كثيرا في الواقع. من المشاهد التي تحدث كثيرا أن يتحول الاعتذار إلى مشهد نجومية ذاتية، بطولة للذات ومناسبة للاحتفاء بها. هذا المشهد هو موضوع هذا المقال.

الاعتذار قد يكون حقيقيا ويعبّر عن أولوية الآخر وقد يكون صوريا ليعبّر عن أولوية الذات وبطولاتها. هذه المفارقات غالبا ما تحدث في مشاهد الاعتذار العمومي. أي الاعتذار الذي يتم إعلانه لجماعة كبيرة، وبالتالي يخضع لكثير من العوامل المعبرة عن علاقة المعتذر والمعتذر له مع هذه الجماعة. مزاج الناس من الاعتذار غريب ومتقلب ومفاجئ في كثير من الأحيان. الناس لديها الاستعداد المبدئي أن تستقبل الاعتذار وترحب به كعلامة على الخلق الجيد، وقد تنظر له كعلامة على الضعف والانهزامية. بمعنى أن هناك جماهير متوقعة للاعتذار ورفضه لذا تدخل العوامل الدقيقة جدا وكثيرة للتدخل في قرار الاعتذار من عدمه. في الصحافة أو في الرياضة مثلا نجد أن ظروفا معقدة ودقيقة جدا تدفع الأشخاص باتجاه الاعتذار من عدمه. هذه الظروف في الأخير قد تؤدي إلى نقل الاعتذار برمته من كونه علاقة بين الذات والآخر إلى مشهد عمومي تتوارى فيه قيمة الآخر لدرجة كبيرة.

المشهد العمومي هذا قد يستدعي إحدى صور الاعتذار التي تستحق التأمل. الاعتذار البطولي أو الاعتذار الذي يصبح فيه المعتذر بطلا خلوقا لا تأخذه في الحق لومة لائم. الاعتذار فعلا موقف يدل على القوة ولكن يجب أن ندقق كثيرا في هذه القوة ومتى تكون حقيقية ومتى تكون مزيفة. قوة الاعتذار تكمن في قوة الإنسان على مغالبة مشاعر العناد في داخله والإحساس بألم سلوكه على الآخرين. الاعتذار إعلان أولوية الآخر على الذات. إعلان أن ألم الآخر أو حقه لهما مكانة موازية إن لم تكن أكبر من مكانة الذات. الاعتذار تسليم الذات للآخر طلبا في عفوها وغفرانها. بمعنى أن الاعتذار وضع للذات في رحمة الآخر طلبا لكرمه وتسامحه. هذا المشهد النفسي العميق يعبّر فعلا عن القدرة على مقاومة ألف سبب وسبب للانشغال بالذات أولا وقبل كل شيء. هذا مشهد فعلا يعبّر عن قوة أخلاقية ونفسية، ولكن لنلاحظ أن كل هذه القوة تم التعبير عنها من خلال أولوية الآخر على الذات في مشهد الاعتذار. لنفكر الآن في الاعتذار البطولي لنحاول التعرّف لمن تكون الأولوية فيه.

الاعتذار البطولي يعني أن يقدم المعتذر نفسه في حلّة بطولية حين يعتذر. بمعنى أن يقول للناس أنا أعتذر لأني فعلا خلوق ولأن لي مبادئ ولأنني لا أخشى في الحق لومة لائم. في هذا المشهد الذات هي صاحبة الجلالة وهي صاحبة الأولوية. الآخر، المعتذر له، هو مناسبة وفرصة للذات لتظهر في مشهد بطولي أمام الجماهير. في هذا المشهد يمكن ملاحظة أن الاعتذار لم يعد علاقة بين الذات والآخر، بل أصبح علاقة بين الذات والجماهير وتوارى الآخر كثيرا عن المشهد كأولوية. الآخر هنا أصبح وسيلة للحصول على هدف آخر. كذلك هذا المشهد يفتقد للشعور بالخضوع والانكسار لمن تم الخطأ في حقه. لا أحد يخضع وينكسر وهو مشحون بهذه الأجواء من الاعتزاز والفخر والانشغال بالذات.

المشهد البطولي الجماهيري للاعتذار مشهد يعبّر عن انغلاق الإنسان على نفسه بمعنى أنه مشهد يقول "أنا بطل لأنني ملتزم بمبادئي". هذا مشهد انغلاق حتى على فرض صدق هذا الإنسان مع مبادئه. في المقابل مشهد الاعتذار الصادق يمكن الاقتراب منه من خلال هذا التعبير "أنا حزين لأنني أحزنتك وأنا أمامك لتخفيف هذا الحزن"، "هذا أنا بجانبك من جديد، من أجلك هذه المرة". مشهد الاعتذار الحقيقي هو محاولة لخلق حقيقة جديدة وواقع مختلف. هو تعبير عن أن العلاقة السيئة التي حدثت في مشهد ارتكاب الخطأ ليست هي العلاقة الوحيدة، ولم يكن ذلك المشهد هو المشهد الأخير. الاعتذار هنا هو فتح لباب جديد من الأمل. في كثير من حالات الاعتذار يتم رد العلاقة من العداوة إلى حالة عدم العلاقة أو إلى العلاقة المحايدة. هذا مشهد محزن. كثيرا ما يكون الاعتذار علامة على نهاية العلاقة من جذورها لكن هذا ليس الخيار الوحيد. الاعتذار العميق قد يكون إحياء للعلاقة من جديد باعتباره مشهدا للدلالة على قوّة تلك العلاقة وصمودها أمام الظروف والصعوبات.

الاعتذار البطولي مشهد أناني تتعالى فيه الذات من جديد على الآخر، لذا أشك أن يلامس نفس المعتذر له أو يطفئ شيئا من ألمه أو حزنه أو خيبة أمله. المشهد البطولي يكرر مشهد الخطأ الأول: استعمال الذات للآخر كأداة لإظهار قوتها.