ثلاث ملحوظات جديرة بالاهتمام حول الإصلاح في الخطاب الشبابي على الإنترنت: الأولى، الإجماع على هذا الإصلاح. والثانية، تنوع المجالات التي يطالب بإصلاحها. والثالثة، أسلوب طرح هذه المطالبة.

المطالبة بالإصلاح أمرٌ معتاد. وهي تحضر دائماً بغض النظر عن مدى إلحاح الحاجة للإصلاح أو جدوى المطالبة به. ولكن غير المعتاد هو الإجماع عليه بشكل غير مسبوق. حركة التنمية السريعة التي مرّ بها المجتمع خلال السنوات الثمانين الماضية أجابت على بعض أسئلة الإصلاح عملياً أو نظرياً، وأغفلت أخرى عمداً أو سهواً. وحسب نسبة الإجابة والإغفال المتفاوتة في كل مرحلة كان يسري في المجتمع شعور جماعيّ بالحماس والإيجابية في مراحل، وفي مراحل أخرى كان يسود شعورٌ بالإحباط واللاجدوى.

ولكن كل ما شهدناه في مجتمعنا من مطالبات بالإصلاح لم تأخذ من قبل هذه الصفة الجماعية، ولا هذا الصبغة الشبابية، ولا هذه الروح العملية. الإصلاحيون اليوم لم يعودوا (نخبة) تتركز عمودياً في أعلى المجتمع بل (شريحة) تمتد أفقياً في عرضه. والمطالبون بالإصلاح تجاوزوا مرحلة التوعية (بضرورته) إلى مرحلة التجادل في (آليته). وهذا الجدل انتقل من أمسيات المناسبات الاجتماعية التي يطغى عليها تبادل التذمر إلى ساحات التفعيل العمليّ التي تسعى نحو إحداث الفرق. هذه الاختلافات بين سمة الإصلاح في الماضي والحاضر جديرة، لمن يعي دروس التاريخ وعلوم الاجتماع، أن تملأ قلبه تفاؤلاً ورضا بمكتسبات المرحلة وبداية التغيير.

بالنسبة للملحوظة الثانية فإن المطالبة بالإصلاح في الخطاب الشبابي لم تأخذ طابعاً موحداً أو تقتصر على مجال واحد. هذا مؤشر على أنها مطالبة انبثقت من رؤية نقدية ناضجة لدى هذا الجيل، وليست مطالبة مستوردة من أدبيات ثورية أو انهزامات معنوية. ولعل هذا يميزها عن مطالبات الأجيال الثلاثة التي سبقته، والتي كانت مطالبات نخبوية من حيث الاستهلال، وسياسية من حيث المجال، وذات رؤية مستوردة في الغالب، سواءً كان استيراداً جغرافياً من مجتمعات أخرى، أو تاريخياً من حقب زمنية بائدة. أحدها حاول استيراد النظم السياسية الشيوعية أو القومية ركوباً للموجة وانسياقاً وراء الشعبية الجارفة التي كانت هذه النظم تكتسح بها العالم آنذاك. وإنصافاً يجب أن نذكر أنه لم يكن من السهل على الإطلاق تجنّب هذه الموجة وعدم الانجراف في سياقاتها. فنحن نحاسبها اليوم بعد ظهور نتائجها الكارثية في الدول التي تبنّتها، ولكنها آنذاك كانت أصعب على التنبؤ وأعصى على التحليل والمقارنة. الجيل الآخر حاول استيراد الأعراف الاجتماعية الغربية كما هي ليفرضها على المجتمع، دون أن يضع اعتبار أن هذه الأعراف بدت ناجحة ومبهرة لأنها نمت بشكل طبيعي وحرّ في بيئتها الثقافية الأم، وأن استيرادها وزرعها في بيئة ثقافية أخرى لن يسفر عن نفس النتائج. ومرة أخرى يستدعي الإنصاف أن نذكر أن الوصول إلى هذه الحقيقة كان يتطلب مقارنة حضارية تستغرق سنوات من المراقبة والتحليل، وهو ما لم يكن حاضراً في الوعي المعرفي لذلك الجيل. وقد ظهرت نتائجها السلبية فعلاً في مجتمعات أخرى على شكل انسحابات قهرية نحو الهوية والجذور، وانشقاق اجتماعي واسع. جيلٌ آخر استورد حقبة زمنية من التاريخ وحاول نشر تطبيقها في حراك معاكس لسيرورة المجتمع الحضارية، وقد استخدم درجة حرارة عاطفية عالية لإذابة هذه العقبات الزمنية، ولكن النسيج الذي نشأ عن ذلك لم يكن قوياً بما يكفي فتمزق إلى تيارات صغيرة تائهة. وإنصاف هذا الجيل الصحويّ يكمن في أنه نشأ أصلاً كردة فعل على التجارب التي سبقته، وكاستثمارٍ سياسي/ثقافي لخيبات الخصوم، وقد استهدف أول دفعة من ناشئة ما بعد الطفرة الذين يفتشون لأول مرة عن موقف يتكئون عليه معنوياً. وبالتالي غاب الهدف في متاهة الأجندات المتعاكسة والمعارك الجانبية.

هذه الأجيال الثلاثة، ومطالباتها الإصلاحية، سادت منذ الستينات وحتى التسعينات الميلادية، وما زالت آثار تجاربها الإصلاحية حاضرة بشكل أو بآخر على شكل مواقف سياسية صعبة التغيير، أو مواقف اجتماعية صعبة النسيان، أو إحباطات نخبوية صعبة العلاج، أو انشقاقات تيارية صعبة الرتق. ولكن كل هذه الصعوبات شكّلت منحنى تعلّم (Learning curve) مفيدا جداً للخطاب الشبابي الحالي في المطالبة بالإصلاح. ومن الطبيعي أن بعض الأخطاء تتكرر بشكل أو بآخر، ولكن بنسب ضئيلة لا تكاد تذكر أحياناً إزاء الصفة السائدة التي تغلب في خطابهم، والأهم من ذلك أن استيعاب الخطأ والاعتبار من دروسه صار يتمّ بسرعة أكبر، وهذا ما يجعل الجيل الرابع من الإصلاح يحمل طابعاً واعداً بالاستمرارية التي لم تتسنّ للأجيال الثلاثة السابقة.

بالنسبة للملحوظة الثالثة، فإن أساليب المطالبة بالإصلاح لدى الجيل الشاب أخذت منهجاً متنوعاً وعملياً وبراجماتياً إلى حد كبير. الجيل الشاب يبحث عما يحقق النتائج، ولا يحبذ المكث طويلاً على عتبات النشوء، والدوران طويلاً في متاهة الجدل. ومثلما أن رؤيته لمجالات الإصلاح وآلياته وأولوياته مختلفة باختلاف أطياف هذه الشريحة، فإن أساليب الطرح تنوّعت كذلك. ومن المهم أن ننظر لهذه المفارقة كعلامة تطور كبير في الحراك الاجتماعي، ألا وهي السعي الجماعيّ نحو هدف مشترك بطرائق مختلفة ومتناقضة أحياناً. ولعل من أسباب إخفاقات المطالب الإصلاحية للأجيال التي سبقتهم هو توهمها بضرورة الاتفاق الأوليّ حول كل التفاصيل حد التطابق. ولهذا أخذ حراكهم الاجتماعي أشكالاً هيكلية (تنظيم، حركة، تيار، ...إلخ). غاب عن الأجيال السابقة أن الالتفاف حول هدف مشترك لا يعني بالضرورة الاتفاق على تفاصيله بل يكفي الاتفاق على صفته المجردة. وتوحيد الجهود لا يعني صهر الفوارق الفردية لتشكيل كتلة متجانسة، بل تشجيع التميز والاختلاف لتخصيب القضايا بأفكار متنوعة. لقد أُخذ الأولون بالتجانس حد التطابق فأرهقهم هذا الوهم الصعب، واختار الآخرون التكامل، فوفروا طاقتهم للسعي الفعلي نحو الهدف بدلاً من إهدارها في تنظيم مبدئي للصفوف لا يتماسك إلا لفترة مؤقتة. ولعلي أكتب المزيد عن هذه الملحوظة الثالثة، أساليب المطالبة بالإصلاح، في مقالة قادمة.