كنا نحتاج من يكتب قبلا، ثم صرنا نبحث عمن يقرأ، اليوم لا أحد يكتب ولا أحد يقرأ وفي الوقت ذاته الكل يكتب والكل يقرأ، الجميع يعبر ويبوح، والجميع أيضا يتابعون ويطلعون، لكنها طاقة هائلة تهدر في العدم وتسفك في الفراغ الكبير، الصراحة والوضوح والمباشرة ووفرة وسائل التعبير وتأثيرها المباشر غيبت الروح الفنية والأسلوبية التي يحتاجها فنان ما لمراوغة رقابة ما، لذلك تجد هذا التراجع الكبير في فنية اللغة وخيالات صاحبها وخياراته، والنتاجات التي تخرج في الغالب بعناوين شديدة المباشرة.

إن شعرا أو رواية أو قصة أو حتى بوحا، النقد تحول إلى ترف فكري أو "أنتيك" في متحف الثقافة، لست هنا في حالة رثائية، لكن هذا على الأقل ما هو حاصل، التهمت الصورة الجميع، صار المثقفون حالات بصرية، نجوما في محرقة الميديا والإعلان الكبيرة.. صارت الثقافة والإبداع ومنتجاتها حالة خاضعة لمقاييس عرض وطلب السوق وصناعة تنطبق عليها شروط التنافسية، المسابقات الأدبية هنا وهناك، الجوائز التي تمنح من هيئات لها مشاريعها.. تضاءلت صناعة النشر التي تمضي بحماس إلى مصيرها الذي تأخر، المفكر تحول إلى طائفي بعباءة علمانية، انشغل الجميع بنقاشات السياسة التي لا تنتهي، ركب من يفترض أنهم تنويريون وأصحاب مشاريع مختلفة في رؤيتها ومقاربتها للمذاهب والأفكار؛ ركبوا الموجة السياسية العابرة للمنطقة ليحصدوا منافع التبرير والتوظيف السياسي لهم، غرقت المنطقة في الدم والطائفية، والنقاشات التي كانت سابقا منشغلة في ما يوحد مستقبلا، تحولت حاليا إلى جدليات عما فرق ماضويا، حفلة العدم وفوضى الحواس وحشد الغرائز.

لكن حتما هذا مؤقت، سننجز كتابة مختلفة ووعيا جديدا مؤسسا على ما هو أعمق إنسانيا وتعايشا، سنتجاوز هذا الظرف الجنوني نحو المستقبل الذي ستملؤه أجيال لن تلتفت إلى كل هذا الهراء، سقط ما يستحق السقوط من عربة الوقت ومركبة الحضارة، وتخفف التاريخ من أحماله وأعبائه نحو ما هو مختلف، وهذا يتطلب ما هو نوعي كتابة وقراءة ووعيا وتناولا.. تغيير نحو التغيير واختلاف يوجب التجاوز وأوهام لذيذة مؤجلة.