يورد قاضي محكمة المدينة المنورة، حسب ما نشر قبل الأمس في الزميلة ـ عكاظ ـ أنه كان ضحية السحر وأنه كان ـ مسحوراً ـ وهو يقبل المئتي مليون ريال في القصة الشهيرة مضيفاً أن ـ فعل السحر ـ جعله مغيباً لا يعي ما يحدث خلال كل فصول القصة. وبالطبع هذا هروب بالواقعة من المادي الملموس إلى آفاق ـ الميتافيزيقيا ـ في مجتمع يجنح للكثافة في تفسير كل شيء بالسحر والعين والحسد، مع الإيمان العقدي المطلق بأنها كلها حق وقدر من الله، ولكن دون هذه المبالغة. ومثلما قال لي صديق ساخر ونحن نقرأ الخبر: أين هي غشاوة السحر العابرة التي ستهبني مليوناً واحداً فقط كجزء من جريمة سحر بواحد من المئتين كي أكمل بهذا المليون بعض نواقص التفاصيل في حياتي المليئة بالدين. تحولت العين والسحر والرقية إلى إفراط لأن العقل الجمعي استمرأ أن يكون كل شيء في الحياة اليومية فصول سحر وعين وحسد وصار من حول هذا ـ الإفراط ـ مؤسسات استثمار مالية ضخمة وما يضحكني بالأمس أنني تلقيت رسالة جوال من رقم لخدمات الرقية، ولكل مشكلة رقية مختلفة تبدأ من تحصين الأطفال وعلاقة الزوجين وتنتهي برقية خاصة للعجز الجنسي فأي إسفاف بالقدر الإلهي على الإنسان وأي امتهان لآيات الله وكتابه يصل إلى هذه الدرجة.

ونعود إلى القصة الأصل في السحر المزعوم لقاضي القصة الشهيرة: أولاً فأنا على النقيض، وأقسم بالله، أنني أعرف قاضياً آخر بعد أكثر من ثلاثة عقود في القضاء وبعد أن وصل إلى قاضي استئناف ثم ما زال يسدد قروض منزله الخاص من سواد مرتبه. لا يمكن لقصة واحدة أن تنسف نزاهة المئات الآخرين مثلما لا نستطيع أن ننزع نظرة الإنسان في الخير أو جُنحه للشر لنقول إن القاضي فوق نوازع البشر.

ثانيا: وقد أوغلنا في الرقية بهذا الشكل المبتذل، فلماذا لا نرقي كل من ترأس وظيفة جوهرية حساسة لنكتشف قبل دوام يومه الأول ما إذا كان مسحوراً حتى لا يقع بالإكراه في قصة مشابهة. لماذا لا يخضع مسؤولو الأراضي والعقود والمناقصات ومديرو عموم الشؤون المالية ومشرفو المشاريع وتوريد الأجهزة المختلفة إلى ـ ماسح ضوئي ـ لا تراه إلا عيون الراقي قبل أن يسلب هؤلاء الملايين ثم نكتشف أنهم أبرياء وكل القصة أنهم كانوا مغيبين وأنهم كانوا يفعلون ما نراه ـ فساداً ـ وهم تحت قوة سحر ميتافيزيقية؟ لماذا لا نقرر من اليوم إنشاء هيئة حكومية جديدة تحت اسم ـ الهيئة العليا للرقية وكشف السحر والعين ـ تكون ملحقة بديوان المراقبة أو وزارة الخدمة، ويمر عليها دورياً كل موظف يعمل على ثغر من ثغور المال العام ويخرج منها بكشف موثق.