يواجه كثير من الناس صعوبة في الاعتذار. هذه ملاحظة يمكن تأكيدها من خلال التجربة الحياتية المباشرة. لماذا هذه الصعوبة؟ هذه هي القضية الأساسية لهذا المقال. يمكن كذلك ملاحظة أن الاعتذار يترافق مع شعور بالألم وربما هذا ما يجعله صعبا عند كثير من الناس. لكن هذا ليس كل المشهد. الاعتذار أيضا تجربة مريحة ومحببة عند مجموع كبير من الناس، ما الذي يجعل الاعتذار مؤلما أو مريحا؟ ما هي المشاعر والمعاني المرافقة للاعتذار والتي تجعل منه تجربة مؤلمة عند البعض وتجربة مبهجة وسعيدة عند الآخرين؟ بل يمكننا التساؤل عن سبب كون تجربة الاعتذار مؤلمة أحيانا ولذيذة أحيانا لذات الشخص؟ سأقترح هنا طريقة لمحاولة فهم هذه الظواهر لعلها تساعدنا على الإجابة عن الأسئلة السابقة. هذه الطريقة تعتمد على تحليل الاعتذار باعتباره شكلا من أشكال العلاقات بين الذات والآخر. هي علاقة خاصة ومميزة وتحتوي معاني دقيقة تضع الذات والآخر في مشهد استثنائي.
من البداية يمكن ملاحظة أن الاعتذار عبارة عن لقاء بين الذات والآخر. مواجهة وحضور في مشهد واحد. هذا اللقاء يستحضر معه بالضرورة تاريخ وذكريات مشتركة بين الطرفين. هذا التاريخ قد يكون مشهدا قصيرا مع شخص التقيت به لفترة بسيطة وقد يكون تاريخا وذكريات طويلة مع هذا الإنسان. هذا التاريخ يشكّل بشكل قوي ملامح وعلامات هذا اللقاء. مشهد الحضور مع الآخر في الاعتذار ينطوي كذلك على مشهد حضور أمام الذات في ذات اللقاء. الاعتذار لقاء مع الآخر نتيجة لسلوك خاص قامت به هذه الذات. الاعتذار كذلك وعد بمشهد جديد وعد بشيء مختلف عن المشهد السابق الذي يراد الاعتذار منه. لذا فالمعتذر يحضر للمشهد بشخصيتين: الشخصية القديمة التي ارتكبت التجاوز الأول والشخصية الجديدة التي تعد بعدم تكرار ما حصل. هنا يحضر الإنسان صورة له لم تعد تعجبه ويضعها أمام الآخر. هذا الخلاف بين الذات وذاتها لن يحسم إلا في حضرة الآخر. المعتذر الصادق الذي يحمل ألم سلوكه الخاطئ يعلم أن هذا الألم رغم داخليته لن يتم تجاوزه إلا بقرار الآخر وإرادته. لذا في الاعتذار انفتاح عميق وإعلان للحاجة والعجز وعدم الاكتفاء الذاتي.
إذا كانت الصورة السابقة دقيقة فيمكن أن نستنتج منها بعض الأسباب التي يمكن أن تجعل تجربة الاعتذار صعبة أو العكس. باختصار يمكن أن نقول إن العلاقة المعطوبة بين الذات والآخر تجعل من تجربة الاعتذار مؤلمة. الذات التي تتم تربيتها بمنطق الأنانية، بمنطق الأنا أولا ستواجه ارتباكا هائلا في مشهد الاعتذار. الاعتذار في جوهره إعلان لأولوية الآخر. لذا تجد أن الاعتذار للأم يبدو قريبا للنفس ولا يثير فيها الكثير من المقاومة. الأم، غالبا، هي أكثر الكائنات التي نعترف بحاجتنا لها بل إننا نعوّل وجودنا بالكامل عليها. تربية الأطفال جوهرية هنا لأنها تؤسس مبكرا لعلاقة الذات بالآخر. الطفل الذي تتم تربيته على أن الآخرين معه في ذات المشهد لهم ذات القيمة التي له تعطيه فرصة كبيرة لرؤية القيمة الطبيعية لمعنى الاعتذار. في المقابل الطفل الذي تتم تربيته على أن الآخرين مجرد وسائل لتحقيق غاياته الخاصة أو على الأقل أنهم يحضرون لاحقا في التفكير أو يختفون بسهولة سيعاني أكثر في تجربة الاعتذار.
الألم المصاحب للاعتذار ربما هو ما يدفع كثير من الناس للهرب من الاعتذار أثناء الاعتذار. أي من خلال تقديم الاعتذار بصياغة شرطية تحتمل التأويل أو من خلال تقديم الاعتذار كمشهد بطولي للذات. صورة أخرى من هذا الهروب نشاهدها مع الإنسان الأناني المنغلق على ذاته الضعيف. أي الأناني الذي يعلم احتياجه العميق للناس ولكنه يريد أن يبقيه في حدود استعماله لهم. مع هذه الشخصية يتكرر الاعتذار حتى يفقد معناه. بمعنى أن المنغلق على ذاته مستعد للاعتذار ولكن ضمن مشهد أوسع في أن يعيد الآخر للدائرة التي تسمح له بأن يستعمله من جديد. الاعتذار هنا هو مجرد إعادة للعلاقة ونحن نعلم أنه لا استعمال إلا بالحد الأدنى على الأقل من العلاقة. تكرار الاعتذار بدون أن يكون له تأثير في ذات المعتذر وعلاقته مع الآخر يعني أن اعتذار المنغلق على ذاته لم يصل إلى المواجهة العميقة التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال.
ألم الاعتذار ناتج عن مشكلة أعمق مرتبطة بعلاقة الذات بالآخر. الذات العاجزة عن الوعي بالوجود الأولي للآخر في وجودها، والعاجزة عن الوعي بالأولوية الأخلاقية للوجود مع الآخر؛ يؤلمها الاعتذار لأنه يخرجها من عالمها المغلق والأناني، فالاعتذار كشف وانفتاح وتعرية. الأنانية مرتبطه بالقوة والحط من قيمة الآخر مقارنة بالذات، ولذا فالاعتذار الذي هو خروج عن هذه المعادلة يصبح عملا مقلقا بعمق وجودي. في المقابل الكائنات الأخلاقية التي تشكلت ذواتها بالوعي بوجود وحق الآخر ترى الاعتذار سلوكا مريحا باعتباره إعلان عودة للحالة الأفضل والأكثر قبولا من الذات. الذات الأخلاقية واعية بدور الآخر في تشكيلها وسلامها الداخلي وبالتالي فهي تلجأ له، فقبوله لها يعني وبلغة مباشرة قبولها لذاتها.