ما الغريب في أن يموت 120 سوريا في سوق شعبي؟ وما المفاجئ في أن يكون بينهم أطفال؟

هو مجرد رقم جديد نضيفه إلى الفص الأيمن من أدمغتنا، قد يقول لي أحد إن الأرقام تخزن في الفص الأيسر من الدماغ، فكرت بذلك لكني وجدته قد امتلأ، ففتحت سجلا جديدا لأرقام الموت السوري في جزء من دماغي كان مخصصا -ربما- للتفكير في المستقبل، وربما للفرح، وربما لتمييز روائح الزهور.

منذ أربع سنوات ونصف، ونحن نعيش هذه المأساة بفصول يومية تتصاعد دون أن تلتقط أنفاسها، وتحول أغرب الأشياء إلى أشياء طبيعية، وأقسى الصور إلى مشاهد مألوفة، وأوضح الحقائق إلى ارتياب، وأرق القلوب إلى قطع من صخر.

في دوما سقط 120 شهيدا كانوا يشترون الخضار أو يبيعونها، وهذا يحدث كل يوم، فما الغريب؟ هل كان أهالي "داريا" يفخخون المفاعل النووي الفرنسي حين تساقطت عليهم القذائف ومات منهم 740؟ وهل كان أهل باب السباع في حمص يخططون لاحتلال روما؟ وأيضا، هل دخل الأب "باولو" إلى الرقة محاطا بحزام ناسف على خصره؟ وهل حملت رزان زيتونة وسميرة خليل راجمة صواريخ؟

في الحرب، في هذه الحرب تحديدا، أول من سقط هو القدرة على الاستغراب، فمنذ البداية دخلنا نهاية اللامألوف، وتكرر، تكرر، حتى صار مألوفا.

التقنية التي علينا استخدامها كبشر هي التقنية ذاتها التي تستخدمها وسائل الإعلام، والسياسيون، فهي تساعدنا على الاستمرار في الحياة، وتساعدنا على النوم، وهذه التقنية هي التحريف، وقول أي شيء عن أي شيء.

فوزير خارجية النظام السوري وليد المعلم على سبيل المثال قال: إن الدولة تحارب الإرهابيين، وهي تستخدم كل الوسائل في سبيل ذلك، ولكن الإرهابيين في دوما اختبأوا تحت الأرض؛ وللتمويه وضعوا فوق مكان اختبائهم مجموعة من المدنيين في سوق شعبي للخضار، ولذلك فكل ما تقوله وسائل الإعلام عن مجزرة بحق المدنيين في دوما هو محض اختلاق ولا أساس له من الصحة.

وهذه تقنية رائعة، لنتصور أي سيناريو مهما كان ضعيفا ومهلهلا، ولنرويه وكأننا نصدقه، فلنقل مثلا إن خطة الإرهابيين كانت استجرار النظام لصنع حفرة كبيرة مكان السوق تمهيدا لتحويلها إلى بناء إرهابي كبير، أو إن الأرض التي يقع عليها السوق هي محل خلاف تجاري بين قائدين كبيرين في التنظيمات الإرهابية، والاختباء تحتها كان بهدف حسم هذا الخلاف، ونقل السوق إلى أرض أخرى يملكها فصيل ثان.

بل وربما أكثر من ذلك، يمكننا بمجهود عقلي متواضع أن نثبت أن الأطفال الذين قضوا في هذا القصف كانوا إرهابيين، وأنهم كانوا ينوون تفخيخ سلال الخضار ورميها في وجه طائرات النظام التي تستهدفها مؤامرة كونية، ومن المعروف أن الأطفال يقلدون آباءهم فيما يفعلون، ولأنهم أطفال ولا يتقنون فنون التفخيخ بشكل جيد، فقد وقع خطأ وانفجرت القنابل التي زرعوها بأنفسهم، فاشتعل المكان ومات الناس.

يمكنني أن استمر إلى ما لا نهاية في وضع سيناريوهات متهافتة، وسيكون كلامي سخيفا فأسخف فأسخف، ولكن المشكلة أن الاستمرار في هذه اللعبة لن يكون بالسخرية السوداء التي أريدها، لأن الكثير -إن لم يكن معظم- الروايات التي سمعناها في السنوات الأربع الماضية تنتمي إلى هذا النوع من السخف.

والانتقال بين الأحداث صار أسرع من التأثر بها، والتفكير فيها، وتفسيرها، ومجزرة دوما التي مضى عليها بضعة أيام، صارت حدثا قديما من الماضي، لا داعي لإهدار الوقت والطاقة على الحديث عنها.

وبمراقبة وسائل الإعلام وردود أفعال الناس، إن كان بشكل مباشر أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أن الاهتمام ليس فيه متسع سوى لشأن واحد، وأن مجزرة دوما تراجعت في اليوم التالي؛ لوقوعها أمام حدث مروع آخر، وهو الصور التي نشرها تنظيم "داعش" لعالم الآثار الفاضل خالد الأسعد، مقطوع الرأس ومعلقا على عمود من أعمدة تدمر الأثرية التي كان هو ذاته أحد أعمدتي طوال ثمانين عاما.

حتى إن بعض المراقبين ربطوا بين الأمرين، وعدّوا الحدث دليلا إضافيا على التنسيق الحميم والعميق بين النظام السوري وبين تنظيم داعش، فكلما قام الأول بارتكاب فعل يمكن أن يحرك العالم ضده، سارع الثاني للتغطية عليه بفعل أكثر بشاعة.

أمام كل ما حصل ويحصل، نحن بشر بلا استغراب.