تحدثنا في مقال سابق عن الأنا والقدر، وذكرنا أنه برغم علمنا بأن الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، إلا أن انحراف الفهم أدى إلى انحراف الأفعال وانحدار أمة الإسلام على قدر بعدها عن المفهوم الصحيح للقضاء والقدر، فالقدر هو أعمال العبد التي سيفعلها في المستقبل، وينتقل بها العبد باختياراته المختلفة وإرادته هو ولكن بعلم الله السابق الأزلي، فالأقدار تتبدل وتتغير وتتقدم وتتأخر بأفعال المخلوق (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)، فقد شاء الخالق سبحانه أن يجعل التقدم والتأخر رهينة لمشيئة العبد، والأقدار دروب عملية متوازية أو متعاكسة لا يمكن أن يسلكها الإنسان في آن واحد (إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
ولقد وجدت آلية عمل القدر التي تجعل العبد يوفى الأجر بغير حساب في قوله تعالى (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)، إنه صبر أولي العزم من الرسل، صبر العمل والمثابرة والتحدي الشامخ والإيجابية والجد والاجتهاد.. الصبر مشتق من نبتة الصبار التي تقاوم الصحراء، ولا تعرف الموت أو الاستسلام.
آلية عمل القدر التي تجلب للعبد الرضا، رضا النفس ورضا الرب، وجدتها في قوله عليه الصلاة والسلام (فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)، آلية عمل القدر التي تحمي العبد من التكبر والغرور عند العطاء والإحباط والقنوط عند المنع وتؤدي للطمأنينة في كل حال، وجدتها في قوله تعالى (وَعَسَى? أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى? أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وقوله تعالى (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ). إنها الوقاية من الكسل عن العمل والإحباط عند الفشل.
آلية عمل القدر التي تجعل العبد من ذوي الحظ العظيم، والتي تحول الأعداء إلى أولياء، وجدتها في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). فتحمي العبد من تكالب العداوات عليه، تلك العداوات التي تنغص عليه حاله ومعاشه وتستنزف طاقاته.
آلية عمل القدر التي تغير أحوال العبد إلى ما يريد من خير، وجدتها في قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، وتغيير ما في الداخل يكون بحسن برمجة عقلنا الباطن بتوجيه جوارحنا؛ لتخدم أرواحنا وترتقي بنفوسنا بما نسمح لأعيننا أن ترى وآذاننا أن تسمع وكيف نفكر وكيف نشعر، فالإنسان يحكم بعاطفتين إما الحب وإما الخوف، وإذا أردنا أن نحصل على الحب فلا بد أن نقدم الحب فهو يبدأ من داخلنا، وإذا أردنا أن نغير الآخرين فلا بد أن نتغير نحن، وإذا أردنا أن نغير أقدارنا فعلينا أولاً أن نغير أنفسنا.
آلية عمل القدر التي تجعل الإنسان أهلاً؛ لأن يرفعه الله في الدارين، وجدتها في قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ)، ولكن ما الذي يمنع الإنسان من الأخذ بأسباب هذه الآليات التي فيها نفعه وخيره في الدارين، إنها (الأنا).. الأنا التي في كل إنسان تظن أنها منفصلة عن كل ما حولها، وبذلك يحل الخوف فيها محل الحب، فهي تفرط في إيمانها واعتمادها على حواسها الناقصة وما تنتجه من حقيقة نسبية، فتصنف هذا خيراً وهذا شراً ولا تؤمن عملياً وفعلياً بقوله تعالى: (وَعَسَى? أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وبتعلقها القلبي بالأشياء تصبح فريسة الأحزان والسخط والإحباط عند السلب، فهي لا تدرك أن (من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)، وكذلك تصبح فريسة الفرح الذي يفضي إلى الغرور والتكبر عند العطاء، فهي لا تدرك أن (من تواضع لله رفعه)، بل لا تفهم معنى الزهد الحقيقي وهو ليس ألا تملك الأشياء ولكن ألا تملكك الأشياء.
الإحساس بالانفصال أو الخوف يرسخ فيَّ قناعات داخلية بأنماط فكرية سلبية ترى نفسها والآخرين والعالم من حولها بها لتعكس ذلك في الخارج؛ ليصبح حقيقة حياتها وينقلب حوارها مع نفسها سلبياً، فهي لا تدرك قيمة حوار الذات الحقيقية نفخة الرحمن التي فيها مع خالقها والتي من أجلِّ صورها الدعاء الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء). (الأنا) لا تفهم آلية عمل حسن الظن بالله، وقدرتها على تحويل كل قدر إلى قدر خير، فهي تؤمن فقط بالملموس والمحسوس والمرئي من الأسباب.
(الأنا) بالخوف الذي فيها والذي حل محل الحب لا تعرف إلا أن تقابل العداوة بالعداوة، بل وبعداوتها الداخلية لنفسها ولغيرها تخلق عداواتها الخارجية، فلا تعرف كيف تدفع بالتي هي أحسن وتحول العدو إلى ولي. (الأنا) تعتقد أن التغيير يكون من الخارج، وتوجه طاقة صاحبها للتحصين من الأخطار الخارجية لمنع حدوث ضرر، ولا تدرك أن أعظم الخطر والضرر يقع علينا من داخلنا، فهي لا تؤمن فعلياً وعملياً بأن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا بعظيم قدر النية، نية المؤمن خير من عمله، وأن الأقدار دروب مغلقة تفتحها النيات ويغلقها القضاء.
(الأنا) بفرط تعلقها القلبي بالأشياء لا تعرف الصبر أو قيمته ولا تحترم السنة الطبيعية في الأشياء والأحداث وآلية عمل القدر، فتستعجل النتائج وتتصارع مع القدر فيفوتها ما وعد الله به الصابرين في قوله (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
في كل ناحية من نواحي الحياة أنظر فأجد آليات عمل للقدر وضعها الخالق وبينها لعباده، ولكن (الأنا) التي فينا تعمل ضد آليات عمل القدر وتحسب أنها تحسن صنعاً، في حين أنها لا تعمل لخيرنا بل لشرنا، فهي العدو الأول للإنسان ولها أولوياتها، وسعادتنا وحسن مآلنا ليست من أولوياتها، إنما القوة والسلطة والمزيد من التملك والسيطرة، القوة والسلطة لا الحب والسعادة وحسن المآل، وكلما كبرت (الأنا) انكمشت الذات الحقيقية نفخة الرحمن التي فينا، وكلما كبرت (الأنا) زادت العدوانية تجاه الذات والناس والإنسانية، فيصبح العالم الخارجي هو انعكاس لنظرتنا إلى الحياة ولحالتنا النفسية، وعلى قدر انكماش مساحة تواجد الذات الحقيقية فينا يفقد الإنسان نفسه ورسالته وما خلق من أجله فيضيع عنه رزق سنة التيسير في قوله صلى الله عليه وسلم (كل ميسر لما خلق له)، وصدق الله إذ قال (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وصلت إلى قناعة أن الإنسان مخير ومسير على قدر معرفته بنفسه وصحة فهمه لآليات عمل القدر والأخذ بها.
إنه الفهم الصحيح الذي جسده الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما امتنع عن دخول الشام وقد نزل بها الوباء، فاستنكر عليه فعله أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، قائلاً: أ فراراً من قدر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.