يواجه العلم الشرعي أزمة كبيرة نتيجة لأنظمة كليات الشريعة التي تتبع النظام المادي في تأهيل طلابها، فبعد أن كان العلم الشرعي يعتمد على إجازة طالب العلم من العالم الأصيل المشهود بعلمه وفضله في وسط العلماء، أصبح طلاب الشريعة مثل غيرهم من طلاب الكليات الأخرى التي تتبع نظام تعليم غربيا يعتمد على عدد الساعات الدراسية، وليس على إتقان الطالب للعلم الذي يتعلمه من شيخه.

وبعد أن كان طلاب الشريعة يحفظون القرآن ويجيدون اللغة العربية، ويتمكنون منها قراءة وكتابة ومحادثة أصبح يقبل في كليات الشريعة أقل الطلاب في المعدلات الدراسية مقارنة بالكليات العلمية والإنسانية، ويعتمدون في دراستهم على مذكرات مستلة من الكتب وملخصات ضعيفة الكم والمحتوى، ويتخرج الطالب لا يعرف من العلم الشرعي أكثر مما يعرفه أقرانه في الكليات الأخرى؛ وذلك نتيجة ضعف المحتوى في الخطط الدراسية في كليات الشريعة وضعف مستوى التدريس، وبالتالي يتخرج الطلاب بمعدلات ضعيفة انطلاقا من ضعف المقررات والمناهج التي يدرسونها.

 المصيبة الكبرى أن من أهداف كليات الشريعة تخريج العلماء، ولكن أي علماء وكليات الشريعة تتلقى أقل الطلاب في المعدلات الدراسية، ويطلب منها أن تقبل أكبر عدد من الطلاب بحجة أن تعليم الدين سهل! دون أن نسأل أنفسنا عن مستوى إلمام هؤلاء بالعلم الشرعي الذي سوف يتعلمونه، ودون أن ندرك أن هؤلاء الطلاب لديهم ضعف علمي وتحصيلي، إضافة إلى ضعف القدرات والمهارات التي تؤهلهم لاستيعاب العلوم الشرعية التي هي من أهم العلوم وألحها، والكارثة أن هؤلاء الخريجين هم من سيكونون علماء الشريعة في المستقبل، فأي مستقبل للعلم الشرعي وللشريعة وهذه البرامج الهزيلة والطلاب الضعفاء والخطط الدراسية المتهالكة هي المعتمدة والمتبعة في كليات الشريعة.

الشريعة لا شك في خطر عظيم بوجود كليات الشريعة الضعيفة والطلاب غير المؤهلين، ونتوقع في المستقبل أن تتحول الشريعة إلى ذريعة لأعداء الدين كما يحصل اليوم في الكثير من المواقع، حيث يكون الدين هو وسيلة للقتل والاعتداء على المحرمات والأملاك والخروج على المجتمع نتيجة الجهل بالعلم الشرعي الحقيقي من قبل الطلاب المؤهلين عقليا وعلميا ممن يستطيع أن يربط العلم الشرعي بالمرجعيات والثوابت ويقيده بالرجوع لأهل العلم دون أن يكون أداة ينطلق من خلالها الأفراد لتبرير مقاصدهم، دون الرجوع لأهل الحل والعقد من علماء المسلمين الثقات.

لقد أصبح المتخرج من كلية الشريعة يفتي بما لا يعلم وهو يعلم بأن الإفتاء مسؤولية كبيرة، وهي من مسؤولية العلماء المصرح لهم بالإفتاء ممن يجمع الجميع على رجاحة علمهم وعلى صلاحهم في حياتهم وفي سيرتهم، فقد يكون هناك من هو ملم بالعلوم الشرعية ولكنه مغرض ويستغل الدين لتحقيق مكاسب شخصية أو غيرها.

سبق أن كتبت عن مسألة كليات الشريعة ربما تكون هناك آذان صاغية لما أقول بدون مجاملة؛ من باب الخوف على ديننا في المستقبل أن يلام ويضعف ويتخذ وسيلة لضرب الإسلام والمسلمين نتيجة مخرجات كليات الشريعة من الطلاب غير المؤهلين ممن يوكل إليهم مسائل تمس حياتنا في الدنيا وتتعلق بآخرتنا وبعلاقتنا مع العالم أجمع، وما انقسام المسلمين وتشرذمهم وضعفهم إلا نتيجة لضعف بعض العلماء وتشرذمهم وعدم قدرتهم على حماية المجتمعات من التفكك والتشظي، بل العكس ثبت أن بعضهم كانوا من أسباب الانقسامات والتعصبات والصراعات وإشعال الفتن التي نراها اليوم في عالمنا بشكل لم يسبق له مثيل.

نعم نريد كليات الشريعة أن تكون الأنموذج العلمي الأفضل والمميز بل نريدها للنخبة المميزة من أبنائنا وبناتنا ممن عليهم مسؤولية قيادة المجتمع في المستقبل ومواجهة المتغيرات التي تهدد دينه وهويته وقيمه وثوابته ومرجعياته والوحدة الوطنية في كل بلد عربي ومسلم، بل إننا نريد كليات الشريعة أن تكون صاحبة المبادرات العلمية وربط ديننا بالحياة وبالعلم والتنمية؛ فالإنسان خليفة الله في الأرض خلقه الله ليعمرها بالعبادة، ولكن أيضا بالبناء والنظام والتطور والمحافظة على ما أنعم الله به على الإنسان من نعم مختلفة والاستغلال الأمثل للموارد والبحث في كل ما يخدم الإنسانية، ويسهم في تأسيس العدالة والمحافظة على الحقوق والقيام بالواجبات.

كليات الشريعة لنا جميعا وليست حكرا على أحد؛ لأنها ترتبط بدنيانا وآخرتنا ولا نرضى إلا أن تكون هي الأولى في جميع مجتمعاتنا ومؤسساتنا، ولكن ليس بهذه النوعية الضعيفة وهذه الخطط الدراسية المتهالكة. نريد نظاما دراسيا خاصا بكليات الشريعة يقوم على الشمولية لعلوم الشرع والنوعية وأن يعتمد على الجودة والإتقان كما كان يعتمد في أنظمة التعليم السابقة مع تطوير الطرق والوسائل، حتى تستطيع كلياتنا تخريج نخب مميزة من الطلاب والطالبات ممن يسهمون في تقديم الدين لنا بشكل جميل ومحبب ومقنع، خاصة في ضوء كثرة العبث والفوضى ممن ينتسبون إلى الإسلام ويدعون أنهم مراجع للدين، متناسين أن المرجع للدين هو القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.

إنني أناشد الإخوة في كليات الشريعة على مستقبل كليات الشريعة والعلم الشرعي، وأطالب المسؤولين في الجامعات ووزارة التعليم والعلماء والمسؤولين ومجلس الشورى بعدم التهاون وإنقاذ كليات الشريعة والعلم الشرعي؛ حتى لا يصبح ديننا أداة للتكفير والقتل وسفك الدماء والعبث، وحتى لا يبتعد ديننا عن حياة الناس وواقعهم وحاضرهم ومستقبلهم وتقدمهم وتطورهم وقوتهم ومنعتهم ووحدتهم، والمحافظة على مكتسباتهم المختلفة،