يشترك العرب واليهود في أنهم شعب ينسب إلى السامية، عرقا واصطلاحا، كما يشتركان معا في أنهما يتعرضان لأنواع من العنصريات ضدهما في أوروبا تحديدا وعلى مدى قرون، غير أن مصطلحا ثقافيا نشأ في الثقافة الغربية هو مصطلح "معاداة السامية/ Antisimitism"، ولكن اليهود تمكنوا من الاستحواذ المعنوي على هذا المصطلح ليكون خاصا بما يجري لهم دون العرب، حتى صار كل ما يمس اليهود هو جنحة قانونية يحاسب فاعلها حسابا قضائيا، وفي المقابل يظل سب العرب والمساس بهم وكأنما هو استحقاق طبيعي أو حرية تعبير مع غفلة تامة بأن العرب أيضا شعب ساميٌّ، وأنهم يتعرضون إلى عنصرية متصلة وتتكرر في كل الظروف والاحتكاكات.
وتجري في ثقافتنا اليوم أن ترداد كلمة "طائفية" تضيق حتى لتكاد تنحصر في النهاية على أي نقد لسياسات إيران وأذرعها في المنطقة، وبمجرد أن تنتقد قتل حزب الله للسوريين أو بطش الحوثي باليمنيين فأنت حينها طائفي، ويجري دوما التغافل عن تقجيرات إيران وإرهابها ودعمها للإرهاب، في حين تصرف الوجوه كلها باتجاه أي عمل يصدر من فئة سنية، أو تدعي أنها سنية، ونلحظ مقدار المبالغة والتكثيف على مذهب في مقابل تبرئة المذهب الآخر، وإن ظهرت فضائيات تطرح ثقافة طائفية وتكفيرية، فإن الشجب والتشنيع يجري باتجاه الفضائيات السنية، ويتم السكوت عن الفضائيات الشيعية.
وهنا سيجري لمصطلح الطائفية ما جرى لمصطلح معاداة السامية، إذ سيكون معنى بنصف مدلول مع إلغاء النصف الآخر، أي أنه يصبح معنى متوحشا بما إنه يمثل أعلى درجات العمى الثقافي.
والطائفية في أصل معناها هي إحالة إلى تمركز طائفة على نفسها بأن تميز ذاتها عن غيرها، وتسعى إلى إقصاء الآخر إقصاء حسيا ومعنويا، وأعلى درجات الإقصاء هو تكفير المخالف، وهذه سمة ثقافية نجدها عند كل الطوائف الإسلامية، وكما عند السنة رؤية عن الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة، فإن عند الشيعة عدد مماثل ونجاة مماثلة في مقابل أن الباقي كلهم في النار "كتاب النوبختي: فرق الشيعة وعددهم 73 فرقة كما رصدهم في الكتاب، والناجي منهم واحدة".
في كل الأدبيات الدينية لدى كل المذاهب تكفير قطعي ومتوحش للفرق الأخرى، بما في ذلك تكفير بعض الشيعة لبعض الشيعة وانشقاقاتهم على بعضهم، مع مبالغاتهم في التكفير والإقصاء والقطع بأنهم أهل الحق وغيرهم مبطل. والكتب تشهد بذلك مثلما تشهد به خطبهم في إيران، وفي تصريحات الملالي وغيرهم، وفضائيات تنتشر في العراق، سواء بسواء مثل تكفير تجده في كتب وخطب سنية.
إذن، التكفير فعل مشترك بين كل الأطراف وعمر ثقافة التكفير تمتد إلى قرون، وتظل نائمة في الكتب وفي اللغة، وقد تمر بضعة قرون وهي ساكنة هناك، مما يجعل الناس تنساها ولا تشعر بها، غير أن شيئا يأتي ويحركها ويجعلها تخرج من بطون الكتب لتحتل الشارع والفضاء السمعي والبصري، وفي زمننا الحاضر فإن ثورة الخميني هي من دفعت الحس الطائفي ليصحو من رقدته السرمدية، ويتحرك في الفضاء العريض تحت مسمى تصدير الثورة، أي تصدير التشيع حتى ترحل في كل أرجاء الكون في أفريقيا وإندونيسيا وبلدان العرب، حتى لتدفع الأموال وتحرك التنظيمات وتهرب الأسلحة من أجل تعميم التشيع بصيغته الإيرانية ولبوسها السياسي والإمبراطوري؛ متوسلا بمفاهيم نصرة الأقلية ورفع المظلومية وتمهيد زمن العودة للمنتظر، وذلك من أجل تسويق المشروع السياسي التوسعي الإيراني تحت المسمى الديني واستغلال تاريخ الحسين رضي الله عنه ليكون دمه علامة لثورة الخميني، ويجري سفك دماء تتجدد كل يوم تحت شعار: لبيك يا حسين.
هكذا يجري تصنيع المصطلحات وتلبيس المعاني في لعبة مستميتة لسرقة الدلالات وتمريرها بقوة البطش، وكم تمسكن حزب الله في لبنان وكم توسل بدعوى المقاومة حتى كسب تأييد كل عربي في الأرض، حتى إذا ما تقوت شوكته أدار بندقيته نحو صدور السوريين، وشارك بشارا في براميله وسلاحه الكيماوي يصبهم على النساء والأطفال، وكل هذا مبرر عندهم تحت دعوى أن الحزب يحرس مرقد السيدة زينب، وأن الطريق إلى القدس يمر عبر الزبداني "خطبته في يوم القدس، رمضان 2015" وهنا يقدمون ظلمهم واعتداءهم بوصفه عملا نبيلا ومقدسا، ثم يصفون غيرهم بأنه تكفيري وإرهابي تجب ملاحقته "هي دعوى الحوثي في حربه على الشعب اليمني، ودعوى حزب الله في حربه على الشعب السوري".
والخلاصة، أن الطائفية ذنب مشترك تقترفه كل الطوائف في كل تعاملاتها مع غيرها، والنقد الثقافي يحتم علينا أن نسمي الأسماء بأسمائها، ونتجنب الوقوع في العمى الثقافي، وأولها ألا نسمح لأنصاف المعاني أن تحتل فضاء الدلالات، وذلك بمقاومة الإرهاب الفكري الذي يمنعك من قول الحقيقة خشية التعرض إلى الملاحقة كما هو حادث في أوروبا اليوم، إذ صار أي نقد لأي سلوك يهودي بمثابة المخالفة القانونية التي تجرك للمحاكم، في حين تقترف إسرائيل كل الموبقات وتجري الغفلة عنها بقوة السطوة الفكرية والمادية للقوة الإسرائيلية المكبرة. وها نحن نشهد حالة مماثلة في ثقافتنا كما نلحظ على مصطلح "الطائفية". وفي المقالة المقبلة سأطرح نظرية محمد مهدي شمس الدين في تفكيك مشكلة الأقلية ومستتبعاتها.