هدى مستور
من أعظم النعم التي امتن الله عز وجل بها على عباده نعمة العقل، قال سبحانه (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)، وعاب سبحانه على أولئك الذين أهملوا عقولهم وعطلوها فقال (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً).
والمتأمل في تربيتنا الأسرية يرى ضعف الاعتناء ببناء العقل وتطويره؛ فالأسئلة التي يطرحها الطفل على والديه في السنوات الأولى من عمره هي إحدى أدوات الاكتشاف الفطرية لاكتساب المعرفة، وقد أوصى المهتمون بضرورة عناية الآباء بالإجابة عن أسئلة الطفل بما يتلاءم مع إدراكه باعتبارها أداة هامة لدعم نموه العقلي وبنائه الفكري إلا أن إلحاح الأطفال في طرح الأسئلة لا يقابله في عدد من الحالات إجابات تحترم عقل الطفل أو تثير فضوله.
وما إن يكبر الطفل وتكثر معه الأسئلة التي تواجه بالتهميش والمصادرة من قبل شركاء التربية وعلى رأسهم المدرسة حتى يعتادَ الطفل إهمال طرح السؤال طالما أنه كان مصدراً لانزعاج المحيطين، ولا يملك بعدها إلا الانخراط في تبني موقف التبعية والتقليد أو مجرد الاستسلام تجاه الإرث الثقافي القائم على العصمة المرجعية كأحد معايير التعبير عن الولاء الاجتماعي أو الثقافي أو الوطني.
وحين نلقي نظرة عامة على مجتمعاتنا نجد أن ضعفاً في البحث عن البيّنة، وغفلة عن قيمة الدليل، والتحقق من السند، مقابل سيادة التبعية الفكرية والتعصب الأعمى.
إن تعطيل العقل، مع تغليب سيادة العادة أو الهوى، قد تحملنا على تبني الخرافات، ومعايشة الأوهام، وتصديق الظنون، والترويج للإشاعات والوقوع في فخ التلاعب بالحيل اللفظية والإيحاءات النفسية والمغالطات المنطقية، من ثم استئساد أهل الباطل وفسح الطرق للجهالة.
وقد صرح الحديث بأن فقدان العلماء لم يأت فجأة بسبب عدوى مرضية، أو عاصفة نارية، وإنما كان لضعف في إعداد الصف الثاني من طلبة العلم وتهيئتهم لمقام الوراثة النبوية، ولمّا لم يحصل ذلك، وقد جرت الأقدار على الأئمة الأعلام، لم يبق أمام العوام إلا المتعالمون الجهال، والذين يخجلهم افتضاح قصورهم، فلا يجدون بداً من الإفتاء بغير علم، وبغير دليل، ومن غير بيّنة. ومنهم من يجرؤ على النيل من التراث العلمي الرصين للأعلام العاملين، ويرى أنه رجل كما أنهم كانوا رجالا؛ فيدعو إلى إلغاء مرجعية العلماء الربانيين، وكفالة الحرية الفردية في فهم الدين من مصدريه الأساسيين وهما الكتاب والسنة، وما أسرع انتشار الضلال في هشيم من فقدوا مسلمات أدوات التفكير وقواعد الاستدلال.
واختلال التعامل مع العقل ليس قاصراً على أمور الدين وحدها؛ فخطبة رنانة فيها وعود إصلاحية تجيء بصورة متكررة وبلهجة واثقة من أحد كبار الوجهاء، كافية بأن تشعل القاعات بالتصفيق الحماسي المصحوب بالهتافات لذلك المغوار، وحين تأتي الفكرة بعد زوال أثر التخدير والسكرة يصدم المصفقون بالكذبة الكبرى.
وإن كان هذا أسلوباً تنتهجه الدهماء في مخاطبتهم لجماهيرهم، فهم أيضاً لا يتمتعون بكامل وعيهم، من حيث لا يشعرون، حينما ينفث مستشاروهم وخاصتهم في عقد تدليس الواقع وقلب الحقائق.
وإذا كان القرآن قد أعلى من شأن العقل، على أنه دال على التوحيد وحادٍ إلى معرفة الله عز وجل، إلا أنه وضع العقل في إطاره، فمن الإساءة إلى العقل أن نوظفه في غير ما هيئ له. قال الإمام الشاطبي: "إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون، إذ لو كان كيف كان يكون".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى "والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، ولو كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد لما أرسل الله الرسل".
وهكذا فإن تهميش العقل وتعطيله يفقدان المرء توازنه، فيكون نهباً لكل فكرة أو خرافة أو شعوذة، والمبالغة في تمجيده تقود صاحبه إلى الصلف العلمي؛ بتأليه العقل البشري، حين يوظف العقل فيما لم يخلق له، فيزعم أن العقل وحده قادر على تجلي الأمنيات وتحقيق الرغبات فقط في حال اتصاله بالعقل الكوني الكبير على جناحي العاطفة الواثقة والخيال المجنح، فتكون حاله كمن يروم قطع الحديد بمنشار الخشب.
وحين نرجع إلى التاريخ على امتداد فصوله وأزمانه ندرك كيف أن افتقاد التوازن في التعامل مع العقل، والإخفاق في فهم المعادلة الصحيحة بين العقل والنقل قد قادا إلى أزمات في الفكر والاعتقاد، وأديا إلى نشوء أفكار واعتقادات شاذة لا يقبلها منطق، ولا يقرها صاحب فطرة سوية، فضلاً عمن استنار بنور الوحي.