أظهر ابن تيمية آراء كانت مخالفة للسائد في زمانه، ورد على أناس "كبار" من علماء الأشاعرة، ومن الصوفية، وكانت ردوده مستفيضة لاذعة، فكتب في الرد على فخر الدين الرازي (الأشعري) في مجلدات كبيرة، منها بيان تلبيس الجهمية وقد بلغ ثمانية مجلدات محققة مخدومة مطبوعة، ومنها في الرد على الأشاعرة (وغيرهم) كتابه الشهير درء تعارض العقل والنقل، أضف إلى هذا الرد على المنطقيين، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في الرد على الصوفية، وغيرها كثير.

لكن أبلغ ما أهاج الناس على ابن تيمية رسالته في العقيدة التي سميت: الواسطية، ثم آراؤه في الطلاق، وشد الرحل لزيارة قبر النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، والتوسل والاستغاثة، فعانى من هذه الآراء معاناة شديدة، وسُجن بسببها مرات.

ومن عجب أن الذين سجنوا ابن تيمية من علماء عصره لم يسجنوه بسبب "التكفير" و"التشدد" مثلا! بل بسبب مذهبه في الأسماء والصفات، وبضعة آراء فقهية في الطلاق وشد الرحل إلى زيارة قبر النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم.

أوذي ابن تيمية كثيرا وتعرض للضرب، والنفي، والحبس، والإهانة، والامتحان، والتكفير، فمن الأشاعرة من أمر بقتله، ومنهم من أمر بنفيه، ومنهم من كفره كما قال الذهبي، ومنهم من استعدى عليه السلطان، ومنهم من سلط عليه العوام، وتعدى هذا الإيذاء إلى محبيه وأتباعه، بل الحنابلة عموما.

فها هو ذا ابن مخلوف المالكي يبلغه أن الناس يترددون على ابن تيمية، وهو محبوس، فيكتب -كما نقل ابن حجر في الدرر الكامنة- إلى السلطان: "يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره".

ولما أن كفر الشيخ نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي ابن تيمية بسبب موقف ابن تيمية من الاستغاثة، قال ابن تيمية في رده عليه: "لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله".

وقد ذكر المترجمون -كالصفدي في أعيان العصر، وكالذهبي في السير، وكابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية- أن البكري هذا وثب على ابن تيمية في مصر واعتدى عليه بالضرب وآذاه.

وكذا الشيخ علي بن أسمح النحوي الشافعي ذكر الصفدي في أعيان العصر أنه كان: "ممن يعبث بالشيخ تقي الدين بن تيمية ويؤذيه بلسانه، ويستعمل في الحط ما علمه من معانيه وبيانه".

وكذا نصر المنبجي الصوفي كتب له ابن تيمية كتابا يعظه فيه لمبالغته في حب ابن عربي، فأصبح نصر من أعداء ابن تيمية، حتى قال ابن حجر العسقلاني في الدرر: "وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي، لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابا يعاتبه على ذلك، فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره، فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير".

وكذا ابن عطاء الله السكندري الصوفي صاحب الحكم العطائية، وشى به إلى السلطان فسيره إلى الشام بسبب ردوده على كبار المتصوفة ولقوله إنه لا يستغاث إلا بالله.

وكذا كان الشأن في أولئك وغيرهم، حتى قال أحد تلاميذ ابن تيمية (وهو ابن عبدالهادي) في العقود الدرية: "قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه وبدعوه وناظروه وكابروه".

ولما أن أفرج عنه مرة بعد حبسه، أتى له السلطان بفتاوى مكتوبة تأمر بقتله من شيوخ بأعيانهم ليأمر فيهم ابن تيمية بما يريد إذا به يقول له: "هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي".

وتعدى الإيذاء إلى تلامذته، قال ابن عبدالهادي: "وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن الحكم وذلك بمرسوم النائب وإذنه له في فعل ما يقتضيه الشرع في أمرهم، وأوذي جماعة من أصحابه واختفى آخرون وعزر جماعة ونُودي عليهم ثم أطلقوا سوى الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية فإنه حبس بالقلعة".

وهذا الشيخ شهاب الدين البعلبكي كان منحرفا عن ابن تيمية ثم التقى به فاقتنع بكلامه وأحبه، ثم أصبح يصرح بتحريم الاستغاثة والتوسل على طريقة ابن تيمية فضربه السلطان خمسين سوطا، ومنع من التدريس، ونفي إلى مدينة الخليل، ذكر ذلك الصفدي في أعيان العصر.

وهذا محمد بن مسلم الصالحي ممن انتصر لابن تيمية فأوذي بسبب ذلك.

وهذا الشيخ برهان الرشيدي الشافعي منع الإخنائي توليته للقضاء مع أهليته لا لشيء إلا لأنه من أنصار ابن تيمية.

بل قاضي القضاة ابن جملة الشافعي حملته عداوته لابن تيمية على ألا يصلي عليه بعد وفاته!

هذه شذرات فقط عما فُعل بابن تيمية وتلاميذه، وهذا لا يعني أن جميع علماء عصره -وكانوا في الجملة من علماء الأشاعرة- وقفوا على الضد من ابن تيمية، بل هناك من نصره أتم نصر، وله فيه ممادح وثناءات؛ غير أن هذه النزعة في العنف في التعامل مع المخالف لا تزال باقية موجودة تشتعل إذا نُفخ فيها.

والمقصد من هذا كله، أن استحلال دم المخالف المسلم وإراقة دمه وإيذاءه ليس أمرا تفردت به طائفة من الأمة دون غيرها. ولا تفرد به ابن تيمية دون العالمين.

فعيب من العيب، وظلم من الظلم أن يُجعل ابن تيمية رأس حربة العنف في هذا الزمن وكأن غيره من سائر الطوائف لا يقول به.

إن لكل طائفة من طوائف المسلمين تراثا فيه تأصيل للعنف مع المخالف، والواجب على أبناء كل طائفة أن يلتفتوا إلى تراثهم فيراجعوه، أما التراشق والترامي بالتهم والألقاب فما أسهله على كل ذي لسان.