أعضد مقالاتي بهذا المقتطف من وصية الإمام محمد مهدي شمس الدين، وهو الرجل الذي رأى مشكلتنا الثقافية الحالية قبل وقوعها، وكان يقرأ علاماتها وحذر منها في وصيته، وطرح رؤيته في الحل (والتفصيل في كتابي الفقيه الفضائي الفصل السابع، وهذا جزء منه) وهو كلام أضعه بين يدي مقالاتي بوصفه الوصفة الثقافية للخروج من المأزق.

أ ـ فساد الود

ما الذي أضحك مني الظبيات العامرية

ألأني أنا شيعي وليلى أموية

اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية

لا شك أن أحمد شوقي كان يتكلم بالمجاز الشعري في مسرحيته (مجنون ليلى) وبعيدا عن الوهم الشعري، فإننا نلحظ أن اختلاف الرأي لا يفسد الود فحسب، بل إنه يكفر ويقتل ويفرق، والتاريخ في قديمه وحديثه يشهد بذلك، وكما هي الكلمة القديمة: وإن الحرب أولها الكلام.

والاختلاف الشيعي السني لا شك أنه اختلاف ساخن وعميق السخونة، وما يهدأ فترة حتى يعود بأشد مما كان، وكأنه يعوض عن فترات السكون بتوتر مضاعف.

وفي مرحلة ما بعد الحداثة التي هي مرحلة الهويات الفرعية ومرحلة ثقافة الصورة وانفتاح الفضاء حضر هذا الخلاف بأعمق وأوسع ما يكون، وصار يحتل حيزا متسعا على الشاشة حتى لقد صار إحدى العلامات الثقافية الفضائية، حاضرا فيها مثلما هو مخزون تاريخي يخترق الذاكرة بأدق تفاصيلها بنبض عال ومتواتر، وهو أحد أكبر فصول كتاب التاريخ الإسلامي، وصار اليوم أحد أبرز صور الفضاء البصري وكأنما هو يحاصر العين مثلما يحاصر المكنون الشعوري القابل للاشتعال عند أي شرارة تقدح فيه.

ومسألة الخلاف وأبعاده لا تنفك تكرر نفسها بصور شتى، ومقابلها مسائل يطرحها حكماء الثقافتين الشيعية والسنية تتعلق بحلول مأمولة لرأب هذا الصدع الثقافي الساخن جدا، وتتوسل الأفكار بالوسائل الاتصالية الحديثة فضائيا وبالصورة والصوت، وكأنما هي مجاز ثقافي عصري يطمح لما طمح إليه شوقي من قبل فأخفق فيه وراح صوته أدراج منصات التمثيل المسرحي لا أكثر، حتى وإن تردد بيته على ألسنة الناس كمضرب مثل يقال ويعصى ولا يحضر إلا في وقت الرخاء ويغيب وقت الخلاف الحقيقي، غير أن أصوات الحكماء تحاول أن ترتفع أكثر من صوت شوقي، وتحاول أن تؤسس خطا فكريا وسطيا يؤسس لمنهجية وسطية فكرية وسلوكية، وهي فرع عن خطاب الفقيه الفضائي، وفقه الصورة، كما يطرح نفسه.

والحكمة في ذلك تأخذ صيغا ثلاثا، هي: التقارب /التعايش / المواطنة.

ويدخل فيها مصطلحات مثل: الأقلية، والذاكرة.

ونحن في هذا الفصل سنقف على تحديات الخطاب الفضائي عبر مناقشة هذه المصطلحات بوصفها صيغا لما نسميه بفقه الصورة. وهو في هذه الحالة فقه ساخن ومتوتر ويقل فيه الحياد ويأخذ فيه الوجدان مأخذا حساسا جدا حتى لتكاد الحكمة تضيع تحت وقوعها في شرك الأمنيات وتحولها إلى مجاز وجداني كحال المجاز الشعري، بينما الواقع يزيد من سخونة الخطاب ويؤجج الانشطار بمزيد من التباعد، وتلعب الصورة الفضائية لعبتها في إلهاب الخطاب وتسخينه باستمرار. ونحن هنا نشهد لحظة من أشد لحظات الثقافة امتحانا لقدرة الإنسان على حرق فضائه الرحب وتضييق كل ما هو متسع، وإن كان ابن حنبل سمى كتاب الاختلاف بكتاب السعة فإننا قد نشهد كتابا آخر يكون فيه الاختلاف بابا لسد كل الطرقات وإغلاق ممرات الهواء، كأنما هي ملحمة تكتب فصولها بالمنجنيق وليس بالأقلام.

وهنا لا بد من إعطاء صوت الحكمة فسحة بمقدار ما تستحقه الحكمة من فقه وتفكر، وبهذا نقف على نماذج جهرت بالرأي وأعلنت أن آراء الفقهاء ليست دينا ولكنها اجتهاد يصح ويخطئ، كما سنرى نماذج له هنا.

ب- الفخ النسقي

يطرح الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين وصيته للشيعة قائلا: (وصيتي لهم ألا يقعوا في هذا الفخ أبدا، وأن يرفضوا أية دعوة لاعتبار أنفسهم أقلية تحت أي إغراء من الإغراءات أو سمة من السمات؛ لأنهم لن ينتفعوا إطلاقا بهذه الدعوة، بل سيكونون سببا لإضعاف البنية الوطنية لكل مجتمع يجتمعون إليه وفي إضعاف وحدة الأمة ـ كتاب الوصايا 85).

يخشى الإمام من أي عمل يزيد من درجة الهواجس والمخاوف عند المسلمين الآخرين (ص 86) حينما يأخذ الشيعة بنظرية الأقلية وما يستتبعها من وصف للمظالم الواقعة عليهم بأنها بسبب كونهم شيعة، وهذا كما يراه الشيخ الإمام يعني فصل الذات عن المحيط، وظهورها بمظهر من لا يرى حقوق الآخرين ممن يتعرضون لمظالم مماثلة، وهنا سترتبط فكرة الحق والعدالة ارتباطا فئويا وليس حقوقيا وإنسانيا، فأنت مظلوم لأنك بالصفة المحددة تلك وليس لأن النظام نفسه معيب، وعيبه شامل وإصلاحه يجب أن يكون كليا وليس تخصيصيا، ويرى الإمام أن مقولة الأقلية وحقوق الأقلية ارتبطت إعلاميا بأميركا وخطابها المعلن في تسويق الفكرة مما يشمها بوشم إمبريالي يلتصق بكل ما هو أميركي وما يخبئ خلفه من نوايا تثير حساسية ثقافية عند الشعوب، وهذا سينعكس سلبا على الشيعة حينما يأخذون بمصطلح هو مصطلح موشوم منذ البدء (ص 83).

وقبل ذلك فالإمام يرى أن فكرة الأقلية لا تصف الشيعة وهو يقسم المجتمع العربي والمسلم على فئات أكثرية ولا توجد في عرفه (أقليات مسلمة ولا توجد أقليات مسيحية، بل توجد أكثريتان كبيرتان: إحداهما أكثرية كبيرة هي الأكثرية العربية التي تضم مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية الأكبر وهي الأكثرية المسلمة التي تضم عربا وغير عرب، والشيعة مندمجون في هاتين الأكثريتين، وهم تارة جزء من الأكثرية العربية وهم تارة جزء من الأكثرية الإسلامية ـ ص 90 ).

تلك فكرته في التقسيم الاجتماعي الذي يحتل فيه الشيعة موقعا طبيعيا لهم في خارطة التصور المعاشي، وأي تصور خلاف ذلك سيتحول في رأي الإمام إلى (مشروع فتنة، وفخ لاستخدام الشيعة في مصالح غربية أجنبية مخالفة لمصالحهم هم كشيعة، ومخالفة لمصالحهم عربا ومسلمين ص 91 ).

تبدى الشيخ مهموما بأمرين يتضافران معا لبناء مقولته وأولهما هو همه في تحصين الشيعة وتأمين وجود أمن لهم، والثانية هو تخوفه على صورة الشيعي في منظور مواطنيه الآخرين، ومن هنا جاء تخوفه من المصطلحات الحديثة ومستتبعاتها الخداعة التي صارت في مرآه فخا ظل يحذر ثقافتنا منه حتى آخر لحظة من لحظات حياته رحمه الله، وقد انتقل إلى ربه وهو يسجل هذه الوصايا على جهاز تسجيل صغير حبسه في جيبه ليودعه آخر كلماته (ص 15)، وكان مهموما بقضية الوحدة الوطنية وقضية الشيعة بما إنهما معا مسؤوليتان أخلاقيتان لا تنفصلان.

عبر هذا التصور كان الشيخ يبني مفهومه على معمار وطني سماه (المنارة اللبنانية ـ 54) وهو مفهوم لا يتحقق إلا عبر الاندماج الوطني بين الطوائف كلها شرط ألا تجنح إحدى الطوائف لأن تتسمى بالأقلية وتصف قضاياها تحت هذا الوصف فتخرج عن الاندماج الاجتماعي وتنهار المنارة وينفجر المختبر حيث تحرقه تجربته التي كانت تنطبخ فيه.

ولهذا يصر الشيخ على نظرية الاندماج وشرطية ذلك للشيعة في كل بيئة يعيشون فيها لكي يتسنى لهم الدخول في عملية العمل الوطني كعناصر تتحرك بحس جمعي: (أوصي الشيعة في كل مجتمع من مجتمعاته وفي كل قوم من أقوامهم وفي كل دولة من دولهم ألا يفكروا بالحس السياسي المذهبي أبدا، وألا يبنوا علاقاتهم مع أقوامهم ومع مجتمعاتهم على أساس التمايز الطائفي وعلى أساس الحقوق السياسية والمذهبية ـ ص 55).

أوصيهم بأن يندمجوا.... ( ص 56).

يقول بشرطية الاندماج ويرى ألا غير ذلك كأساس لوجود طبيعي وكأساس للوصل بين الذات والبيئة، والاندماج لا يعني التسليم بالواقع ولكنه يعني نوعا عاليا من تحويل المطالب إلى مشروع وطني عام وكل مظلمة تقع على مواطن ما هي مظلمة على الكل ورفع الصوت ضدها هو مشروع أخلاقي وطني وليس مشروعا فئويا وخصوصيا، وكل تخصيص ذاتي للذات إما بالصفات أو بتفسير الأحداث سيكون وجها آخر من وجوه الإقصاء والإقصاء المضاد، وكثيرا ما تتقمص الضحية نموذج الجلاد وتعيد صفاته عبر ردة فعلها.

هذا ما نقرؤه من كلام الإمام وتحضر عندي صورة شخصية عشتها في الكويت عام 2003 على إثر سقوط صدام حسين وكنت مع أصدقاء من شيعة العراق السياسيين وكان الحديث ساخنا فيما بين غمرة فرح وغمرات توجس، ووجدتني أتفجر بصدق عاطفي لحظتها وقلت لصحبي: إن الشيعة اليوم (حينها) على موعد مع التاريخ فإما أن يشفوا العالم العربي من أمراضه أو أن يكرروها، وكانت تلك لحظة كان الشيعة فيها على حكم هم صناعه، وكنت أنا خائفا من عقدة الثأر لكي لا تفسد اللحظة، وأقصد الحالة التي تشبه أبواب أول نصر تاريخي لهم يمكنهم من تأسيس اللحظة التي صنعت فتح مكة زمن الرسالة الأول وهي الحدث الرمزي الذي صنع التجاوز ومن ثم انطلاق مشروح الحضارة والفتوحات الإسلامية لأن رسول الله -عليه السلام- ترك سياسة الثأر وسياسة المنتصر المهيمن وأخذ بسياسة التحول والتجاوز وبناء المستقبل عبر التحرر من الماضي، قلت هذا ولم أكن قد رأيت وصايا الشيخ الإمام ولو كنت رأيتها لجعلتها مرجعا لحواري ذاك.

ولقد أشار الشيخ إلى تجربة شيعية لبنانية في الستينات خرج الشيعة من عزلتهم ودخلوا في تجربة اندماجية، وهو اندماج لم يكن على قاعدة التشيع وإنما على قاعدة الحداثة (ص 35) وخرج من ذلك قيادات ثقافية وسياسية رائدة في لبنان حينها. وهذا نموذج نجد له أمثلة في كثير من بيئاتنا العربية. وفي السعودية كانت تجربة أرامكو رائدة في عدد من معانيها، ليس في العقل التصنيعي والإداري فحسب، بل أيضا في الوعي الوطني الكلي والنضالي والحقوقي واشتركت فيه كل القوى وكل الوجدانات، وهي أمثلة ما زال الناس يحيلون إليها في أحاديثهم وكأنها ذكريات الأحلام الجميلة.

ج ـ وأخيرا سنرى بوضوح أن الدفع بفكرة أن الشيعة أقلية لا يحمل صيغة إيجابية؛ لأنها تقوم بالضرورة على عزل جزء من جسد الأمة، وجعله في تنافر سلبي مع بقية أعضاء الجسد، وسيترتب على هذا أن تكون فكرة الحقوق فكرة فئوية تقتسم بناء على نظام المحاصصة -كما هو حادث اليوم- وسيصبح الحق ملونا بألوان الوجوه والألسنة ومضمرات النفوس، وستتعرض فكرة الوطن للتقسيم الفئوي الذي يفتت ولا يوحد، وهذا لن يكون مطلبا وطنيا ولا مشروعا في التنمية ولا خطة لبناء مستقبل يستجيب لشرط المعنى الوطني وأنظمته الذهنية والمعاشية.