في يوم الثلاثاء الماضي "1 ذو الحجة" أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، توجيهاته بشأن حادثة رافعة الحرم التي أودت بحياة نحو "111" حاجا وزائرا، وأصابت نحو "331" آخرين.
طمأنت سرعة صدور التحقيق الأولي –بعد أربعة أيام فقط من الحادثة- الجميع، وكذا حزم الدولة في التعامل مع المتسببين، والشفافية التي اتصف بها التقرير، فلن تُنسى الحادثة بل سيكون هناك تحقيق أكثر شمولا يتم خلاله محاسبة المسؤولين عنها أمام القضاء. ولعل ذلك أن يُسهم في تقوية إجراءات السلامة في جميع المشاريع ويمنع تكرار مثل هذه المآسي مستقبلا.
أشار البيان الرسمي إلى أن تقرير اللجنة المكلفة بالتحقيق في الحادث انتهى إلى تحميل المقاول "مجموعة بن لادن السعودية" جزءا من المسؤولية في الحادث، محددا عددا من الأسباب لذلك.
السبب الأول: تعرض الرافعة لرياح قوية خلال إبقائها في وضعية خاطئة، مخالفة لتعليمات التشغيل المعدة من المصنع، والتي تنص على إنزال الذراع الرئيسة عند عدم الاستخدام أو عند هبوب الرياح، مما يجعل من الخطأ إبقاؤها مرفوعة.
الثاني: عدم تفعيل واتباع أنظمة السلامة في الأعمال التشغيلية.
الثالث: عدم تطبيق مسؤولي السلامة عن الرافعة التعليمات الموجودة بكتيب تشغيلها. الرابع: ضعف التواصل والمتابعة من مسؤولي السلامة في المشروع لأحوال الطقس وتنبيهات رئاسة الأرصاد وحماية البيئة.
الخامس: عدم وجود قياس لسرعة الرياح عند إطفاء الرافعة.
السادس: عدم التجاوب مع كثير من خطابات الجهات المعنية بمراجعة أوضاع الرافعات، خاصة الرافعة التي سببت الحادثة.
وبناء على نتائج التحقيق الأولي، وجّه خادم الحرمين بمراجعة أوضاع جميع الروافع الموجودة في المشروع، والتأكيد على توفير جميع متطلبات واحتياطات الأمان والسلامة فيها.
وبهدف استكمال التحقيق، وجّه خادم الحرمين بإحالة تقرير اللجنة وكل ما يتعلق بهذا الموضوع إلى هيئة التحقيق والادعاء العام لاستكمال إجراءات التحقيق مع "مجموعة بن لادن السعودية" وإعداد لائحة الاتهام وتقديمها إلى القضاء للنظر في القضية، وإلزام مجموعة بن لادن السعودية بما يتقرر شرعا في هذا الخصوص.
وإلى أن يتم استكمال التحقيقات وصدور الأحكام القضائية في الحادثة، ونظرا إلى ما ظهر حتى الآن من مسؤولية "مجموعة بن لادن" وتقصيره، فقد صدرت الأوامر بمنع سفر جميع أعضاء مجلس إدارة المجموعة، والمهندس بكر بن محمد بن لادن، وكبار المسؤولين التنفيذيين فيها، وغيرهم ممن لهم صلة بالمشروع.
وفي إجراء احترازي ضروري، تم إيقاف تصنيف "مجموعة بن لادن السعودية" ومنعها من الدخول في أي منافسات أو مشاريع جديدة، على ألا يرفع الإيقاف إلا بعد استكمال التحقيقات وصدور الأحكام القضائية في هذه الحادثة ويعاد النظر في التصنيف في ضوء ذلك، وبما لا يؤثر على المشاريع الحكومية التي تقوم المجموعة حاليا بتنفيذها. وتم تكليف وزارة المالية والجهات المعنية الأخرى بشكل عاجل بمراجعة جميع المشاريع الحكومية التي تنفذها المجموعة، وكذلك إعادة النظر في عقد المهندس الاستشاري "شركة كانزاس".
وفي لفتة كريمة، وجه خادم الحرمين الشرفين بصرف مبالغ سخية للجرحى والمعاقين والمصابين وذوي الشهداء، واستضافة ذويهم في حج العام القادم مع من لم يستطع استكمال حجه هذا العام من المصابين، مع احتفاظ الجميع بحقوقهم تجاه المتسببين في الحادثة، فلا يحول صرف هذه المبالغ دون مطالبتهم بالحق الخاص أمام الجهات القضائية المختصة.
ومن المستغرب حقا، أن ينبري البعض للدفاع عن مجموعة بن لادن أمام هذه الإجراءات الحازمة التي اتخذتها الدولة بحقها، بدعوى أنها من أهم وأعرق شركات المقاولات في المملكة، وأنها ليست الوحيدة التي تخالف نظم السلامة.. إلى غير ذلك من الحجج. فإن من الطبيعي تماما، بل من الضروري حتما، أن تتم مساءلة المتسببين في أخطر حادثة في تاريخ مشاريع البناء والإعمار السعودية، خاصة حين تقع الحادثة في البيت الحرام، في البلد الأمين، خلال موسم الحج، وألا تذهب أرواح الشهداء ودماء المصابين، وإصابات المعاقين هدرا، فضلا عما يمكن أن تتسبب فيه الحادثة من تشويه لسمعة المملكة التي تحشد كل عام عشرات الآلاف من قوات الأمن وموظفي الدولة، وتنفق المليارات للقيام على راحة الحجاج وتيسير مناسكهم. فلا يجوز والحال كذلك التساهل مع من لا يشارك الدولة هذا الاهتمام، ويغلّب الربح المادي على متطلبات السلامة.
من الطبيعي كذلك بعد هذه الحادثة أن تكون هناك إعادة نظر في تعليمات السلامة في جميع مشاريع البناء في كل أنحاء المملكة، من ناحية شموليتها ومراقبة تنفيذها، ولذلك فإن من أهم ما جاء في التعليمات الصادرة يوم الثلاثاء، تكليف وزارة المالية والجهات المختصة الأخرى، بشكل عاجل، بمراجعة جميع المشاريع الحكومية الحالية التي تنفذها ليس فقط مجموعة بن لادن بل جميع المقاولين، للتأكد من اتباع أنظمة السلامة، واتخاذ الإجراءات القانونية والاحترازية اللازمة لمعالجة أي قصور.
ومراجعة المشاريع الحكومية للتأكد من اتباع أنظمة السلامة ليست مهمة وزارة المالية وحدها، بل تتطلب تضافر جميع الأجهزة الحكومية، وربما يكشف هذا التحقيق أماكن خطر كثيرة يمكن تلافيها وتفادي حوادث دامية أخرى.