اهتدى الألماني أحمد فون دنفر للإسلام وأدى فريضة الحج فكتب تأثرا بهذه التجربة كتابه (حجي إلى مكة) وهو كتاب مؤثر وملهم، تتضمن الكثير من أجزائه محاولات لاستخراج المعاني الروحية من كل شعيرة أداها في نسكه، ومن ذلك قوله: (ألا يمكننا القول بأن الإحرام يشير إلى الموت، وأن الطواف يسلم المرء إلى الله، والسعي أليس كدا ومعاشا، أليست زمزم هي الحياة والكينونة، ويوم عرفة ألا يجعلنا نتصور القيامة، أليست مزدلفة ظلاما يسبق اليوم الجديد، ألا يرمز رمي الجمرات للكفاح مدى الحياة ضد كل ما هو شر..).

ومن الذين تأثروا بكتاب دنفر، مراد هوفمان المفكر الألماني الذي دون بدوره كتابا بعنوان (الطريق إلى مكة) وصف رحلته إلى الحج في بعض فصوله. وهو نفس العنوان الذي حمله كتاب النمساوي الشهير (محمد أسد) الذي سبقهما زمنيا ببعض عقود، والذي لم يُغفِل فيه كذلك سلوك نفس المسلك من ربط الأداء الظاهري للشعيرة بمعنى باطني يستلهمه المتعبد داخل الإطار القيمي الذي يتمثل في طريقة نظره إلى الوجود من خلال الإسلام الذي يعتنقه ويعتقد به.

ولكن يظل كتاب علي شريعتي (الحج، الفريضة الخامسة)، هو أبرز الكتب المعاصرة في هذا الباب كما أتصور، ففي كتاب شريعتي سياحة تأملية وروحية ملهمة لمن عزم على الحج، بل ومعزية لمن امتنع عليه أداؤه.

يقول شريعتي في إحدى صفحات كتابه: (مطلق الحرية في مطلق التسليم، تلك مرحلة إبراهيم التي تقع في منى. أنت الآن مقدمٌ على أن تفعل مثل ما فعل إبراهيم حينما جاء بابنه إسماعيل ليذبحه، فمن هو إسماعيلك؟ أو ما هو؟ هل هو موقعك؟ لقبك؟ مهنتك؟ مالك؟ بيتك؟ حبك، أسرتك؟ الطبقة الاجتماعية؟ الفن؟ الأزياء؟ شبابك؟ جمالك؟ أنت وحدك الذي تعرف. مهما يكن إسماعيلك أو كيفما كان، ينبغي منك أن تأتي به إلى هنا معك لتضحي به).

ولكن في مقابل هؤلاء هناك الكثير ممن تيسرت لهم فرصة أداء الحج دون أن يستطيعوا تجاوز ظواهر المناسك إلى بواطن الشعائر، فشغلوا بالمطابقات الفقهية عن استلهام المعاني، ولعلهم يمثلون في ذلك انعكاسا لحالة ثقافية عامة تسود الأمة في هذه الآونة، مزاجها الحروفية ورحيقها السطحية. ولعل هذا ما يفسر ظهور بعض ما يبدو من سلوكيات لا تتسق مع روح هذه الفريضة من أثرة وتدافع في سبيل الوصول إلى بعض المشاعر، حيث لا يخفى ما تجره مثل تلك السلوكيات من أذى يصل في بعض الأحيان إلى الكوارث. فمن غير المتصور أن يتورط متعمق بالمعنى الروحي للحج أثناء أداء مناسكه في إيذاء الإنسان الذي يمثل أقدس مقدسات الرحمن في الأرض. لا فرق في ذلك بين من كان دافع أثرته عجلته على اللحاق بالدنيا وعالم المادة، أو من كان دافعه في ذلك عجلة ناتجة عن فهم سطحي للنصوص دون تدبر!

فالحج في حقيقته تظاهرة عظمى لتدريب روحي على المساواة والإيثار والرحمة ومثيلاتها من المعاني، وليست الطقوس سوى مؤشرات نحو ذلك الاتجاه. فإن خلت المشاعر مما رمزت إليه إبان ممارستها، فهي من إحداث الأثر في الأرواح بعد انقضائها أكثر خلوا.

وتحضرني هنا إحدى أشهر رحلات الحج في العقود الأخيرة، وأعني رحلة مالكوم إكس المناضل الأميركي الأسود، فقد انبهر بمشاهداته حتى خلقت منعطفا مهما من منعطفاته الفكرية، وكان لها الدور بتبشيره بالفكرة القائلة بأن الإسلام هو أكثر المنظومات العقدية تأهيلا لحل مشكلة العنصرية في أميركا وبل ومشكلة العنصرية العالمية، وقد ضمن فكرته هذه في رسالته الشهيرة التي عكست مقدار استلهامه الروحي لقيم الحج وإشاراته، تلك الرسالة التي شاعت حال عودته من رحلته وقبل اغتياله في نيويورك بوقت ليس بالطويل.

يلوح لي أحيانا بأن الحج تجسيد تلقائي لحال الأمة في صورة كثيفة ومصغرة كل عام. ولا يخفى على أحدٍ كم هو تعيس هذا الحال في أيامنا هذه، من بقاع مضطربة وفتن متأججة، لذلك فإننا ندعو الله من أعماقنا أن تظهر في حجنا هذا مبشرات ولوجنا للنهضة وعروجنا إلى الحضارة من انضباط ورفق وتسامح. فما أروع أن نجد ثمار ما نعيشه من تدين على كافة مظاهر سلوكنا الإنساني المتكفل بعمارة هذه الأرض.

يسّر الله حجنا وتقبل صالح أعمالنا ورزقنا الأمن والرخاء في أوطاننا.