حل علينا العيد هذا العام محملا بذكرى الوطن في يومه الخالد الذي يكبر فينا عاما بعد آخر، وإن كان العيد بهجة فالوطن سعادة، فداء، وانتماء، كينونة تسكن مهجة القلب، فرحنا به وعشنا تفاصيل ذكراه التي حانت والزمن يسجل في ذاكرته بطولات أبنائه الذين ضحوا وما زالوا بأرواحهم فداء لثراه الطاهر، يقفون جميعا على تخومه في وجه كل من يحاول المساس بشبر أو أدنى من حدوده. إنه الوطن وكفى هو المشترك الأبدي الذي يجمعنا مهما بلغ التباعد والتنافر، وهو الذي لا ينظر إلى قبائلنا ولا مذاهبنا، فقط هو الصدر الرحب جدا الذي يحنو ويغفر، لا يفرق بين أبنائه أبدا حتى وإن صنفوا بعضهم البعض، وادعى كل طرف أنه الأحق به، وأنه البار الذي يبذل روحه للذود عن حياضه. هو الوطن الذي يسكننا جميعا بنفس المقدار من الحب والإخلاص، ومهما زايد البعض فهو لا يجانب الصواب، لأن الإنسان منذ الأزل ارتبط بالمكان الذي ولد وترعرع فيه، قبل أن تقسم الأرض أوطانا مأهولة بالقاطنين الذين يحملون هوية المكان دون أن يدربوا على ذلك، لأن حب الأوطان تُرضعه الأمهات الصغار ليكبر معهم.

ولو أدركنا هذه الحقيقة لتخلصنا من تلك الأصوات التي تظهر من وقت لآخر مشككة في انتماءات البعض ومتبنية فرضيات النفي والمحاربة بل والتشكيك في مواطنة آخرين، متناسية أن التراب فرض الولاء قبل أن تتطور مفاهيم المواطنة وتتغير فوق مناهج وأفكار معينة صيغت تماشيا مع نظرة فئة ترى في نفسها الأفضلية لاحتكار الوطن، حتى وإن ظهر فيها من تجنى على وطنه وغدر بأهله إلا أنها تسوق المبررات وتلقي باللائمة على تيارات من خارج الحدود، متناسية أو جاهلة أنها من زرعت فيهم عوضا عن المحبة والتسامح بذرة الريبة والتخوين فيمن لا تتقاطع معهم في النهج أو حتى النسب.

وخيانة الأوطان جرم لا يعادله جرم، هو أن تقطع الوريد النابض بالحياة فيك وفي الملايين غيرك وتسلمه لعدو تجرد من الإنسانية وأخذ من الغدر والخيانة منهجا يبني بهما نظاما تجرد من معاني الفضيلة، لذا فهم يتجردون من إنسانيتهم ليضرموا النيران في قلوب الأمهات ولهيبها يحرق الصغار في أحضانهم ويقتلون الآباء والإخوان بدم بارد وصيحات الولاء والمبايعة للطغاة تسبق صرخات الاستغاثة لمن كبلوهم بالموت، وكبروا على رؤوس الأشهاد معلنين ألا جرم لهذه الأرواح البريئة إلا حبها وإخلاصها لوطن يطوي فواجع الدهر في أبنائه ويلبسهم ثراه أكفانا.