كنا نستفظع مشاهد القتل فيما نراه من الأفلام، ونحن نعلم كل العلم أنها ليست سوى تخييل وتمثيل لا علاقة له بالواقع بأي وجه، ثم لم تلبث السنون تتوالى، ووسائل الاتصالات تنمو وتتطور، وتمتد وتتشابك، حتى أضحى حدث يكون في قرية نائية من قرى الصين؛ خبرا يشاع ذكره بما ينافس سرعة الضوء، في قرية نائية من قرى القارة الأفريقية.

وإذا الذي كنا لا نظن أننا نراه إلا في الأفلام الخيالية؛ إذا هو حقيقي وواقع، وإذا هو أفظع، وأقسى، وأشنع ألف مرة مما كنا نستفظعه في تلك الأفلام، بشر حقيقيون مثلنا، ليست أوجههم مصبوغة بما يحولهم وحوشا، ولا رؤوسهم تشبه رؤوس الحشرات مكبّرة آلاف المرات، ولا لهم أنياب تقطر دما، ولا أعين كأعين القطط بأشفار تشبه المسامير.

إنهم بشر مثلنا، بل هم منا ونحن منهم، ماذا يفعلون؟ يجزون الرؤوس جزا كما يفعل الجزار بذبيحته، مع صخب وتهليل وصياح وتكبير، أو يطلقون الرصاص على الرؤوس فينهتك الرأس انهتاكا، ويتمزق، وينتثر الدم، ويرشق الدماغ الأرض.

مقاطع إثر مقاطع، ومشاهد تتلوها مشاهد، تراها حتى رقيقات البنات، وبرآء الأطفال، الذين لا يزالون في المراحل الابتدائية أو دونها، فضلا عن المخدّرات في البيوت من غضيضات الطرف ورقيقات الحسّ.

ولا تزال تلك المقاطع المرعبة المخيفة تتزايد، وتنتشر، وتصل إلى كل أحد، وإذا مشهد حزّ حلقوم، أو جزّ هامة، أو تفجير رأس، أو سلخ جلد، أو تقطيع جثة مشهد عاديّ، ومتداول ومألوف، وطبيعي!

وهكذا تكون رؤية القتل بكل تلك الصور الغريبة والمتفنّنة أمرا عاديا نراه كل يوم، مرتبا على قائمة المشاهدات مع مقطع أغنية، أو مسلسل، أو محاضرة! مشهد من المشاهد! يُرى كما يُرى غيره بكل أريحية.

إنه شيء يشبه التطبيع! أي جعل مثل هذه الجرائم شيئا طبيعيا مألوفا متاحا لكل ذي عينين، ومشاعا لكل من يريد. وهنا مشكلة من المشكلات لا أدري كيف يمكن حلها أو التصدي لها؛ إذ لا يمكن الوقوف أمام هذا الطوفان الجارف والتيار المندفع كاندفاع تسونامي.

وما تلك المشاهد إلا طرف جبل الجليد فقط –كما يقولون-، والسؤال الذي يتلوّى في الذهن مع تلافيف الدماغ: ما الفكر الذي تقوم عليه تلك الجرائم؟ كيف يتحول إنسان وديع، عاش في مجتمع وديع، ودرس في مدارسه، وبالكاد جاوز قريته أو بلده، كيف يتحول هذا الإنسان الوديع الطيب المنحدر من أسرة وديعة طيبة إلى وحش حقيقي، ربما كان يتأثم من قتل قطة أصابها وهو يقود سيارته من غير قصد ويحزن ويتألم، كيف يتحول إلى وحش يقتل أقرب الناس إليه بلا أي شعورٍ بالذنب، بل بفخر واعتزاز وإيمان حقيقي بأنه فعل الصواب، وأنه أرضى رب العالمين؟!

كان مشهدا بالغا أقصى حدود الفظاعة ما رأيته ورآه معي الآلاف صبيحة يوم عيد الأضحى، فأحال البهجة إلى حزن، والانشراح إلى ضيق، شاب عشريني في ريعان الشباب، يقيّد ابن عمّه! ابن عمه الأدنى، ابن أخي أبيه، يقيّده وملامح الدهشة ظاهرة كل الظهور على وجه المغدور المسكين الذي كان يلقي خطبته الحقيرة السخيفة المعبرة عن سطحية وغباء وفهم للدين ساذج أحمق، أهذا سعد؟ أهذا ابن عمّي، الذي عشت معه طفولتي، والذي بيني وبينه ذكريات، وضحكات، ومقالب، وطرائف، وأحزان وأفراح؟

حتى إذا صوّب الكذوب الغادر بندقيته تجاهه، صاح ينتخي فيه الرحم والقرابة والطفولة والذكريات، صاح ينتخيه: تكفى يا سعد، تكفى يا سعد، ولكن صوت المرحوم الذي يقدّ الصخر، عجز عن اختراق قلب هو أشد قسوة من الصخر "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار"، وإذا بالرصاصة تخترق رأس المسكين، وتنتهي حياته غدرا واغتيالا، وقد قيدت يداه ورجلاه، مات رحمه الله، وقد مات بكل حرف من أحرف الخطبة البتراء التي ألقاها الغادر مباهيا بجبروته.

أما القاتل المجرم فخطبته كانت تلخيصا لهذا الفكر الذي أحاله إلى وحش غادر كذوب، فكر سطحي أحمق ساذج جاهل.. الدولة كافرة! جنودها كفّار! والكافر يقتل!

كل فكرة من تلك الأفكار لها خطابها المعلوم المنتشر، ولئن كان كثيرون لا يقولون بتلك الأفكار، فهم يقولون بما يؤدي إليها عن طريق اللزوم.

تلك الأفكار معشر القراء الكرام، تلك الأفكار التي يشارك المجرم فيها مجرمين مثله، ينزلونها على الناس، فيكون قتل أحدهم عندهم؛ أهون من قتل ذبابة.