تحدثنا في مقال سابق عن (الأنا والنجاح الحقيقي)، وعرفنا أن ما يقابل مفهوم الملكية هو مفهوم آخر يسمى الكينونة، وأن السمة الأساسية لنموذج الكينونة هي أن يكون الإنسان نشيطا إيجابيا فاعلا. لا بمعنى النشاط الظاهري، أي الانشغال، وإنما النشاط الداخلي، وهو الاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية الداخلية والتعبير عن الملكات والقدرات والمواهب، أي أن يجد الإنسان نفسه وأن ينمو داخليا ويتدفق ذلك كله منه شغفا وحبا وعطاء. أما الإيجابية والفعالية فهي بالمعنى الحديث السطحي تعنى فقط بالسلوك، وليس بالشخص وراء هذا السلوك، دوافعه، تواصل ذاته مع الفعل.
إن النشاط الإيجابي الفعال هو العمل الذي يقوم به الإنسان متحررا لا مساقا بقوة خارجية مثل العبد، أو بدوافع قهرية داخلية مثل القلق والخوف، وبذلك يشعر بالاغتراب بينه وبين فعله، فلا يشعر بنفسه فاعلا. فقط في النشاط الإيجابي الفعال غير المغترب يجد الإنسان ذاته، فنشاطه هو تعبير عن طاقته وتجل لقدراته ليصبح هو وقدراته كيانا واحدا بعلاقة موصولة بالشيء الذي يفعله وعندها فقط يسمى النشاط مثمرا، لأنه أسهم في تحقيق الإنسان لذاته من خلال إمكاناته وملكاته، وعندها يولد شيء جديد في كل أعماله، وعندها يكون حيا، فمفهوم الحياة أعمق من أن يحصر في حياة الجسد، والوجود الحقيقي وكشف قدرات الإنسان الخاصة هما الشيء الواحد نفسه، فالنشاط الإنساني الحر الواعي هو الحياة.
يقول الشيخ العالم الكبير بديع الزمان نور الدين النورسي "إن الإنسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يشعره الحق جل وعلا جميع أسمائه الحسنى المتجلية بما أودع في نفس الإنسان من مزايا جامعة". فالذات عند النورسي مقياس للمعرفة ومعيار لها، بل ويذهب في استقرائه إلى أن الذات هي الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.
أدركت أن النجاح الحقيقي هو أن يتوافق فضاؤك الداخلي مع خارجك، أن تحترم ذاتك وأنت تنظر في المرآة، فأعظم الخيانات خيانة الذات، وغاية الحياة أن يستحي المرء من نفسه أولا، عندها لا يضيرك اعتراف الناس بأعمالك أو حتى استنكارهم لها، وتتحرر من الأنا التي تتعطش وتعيش على نظرات الإعجاب وكلمات الثناء والشهرة وتعتبرها من معايير النجاح.
وبذلك أصبح حرا، فالحرية أن يكون الإنسان تحقيقا لذاته، لا أن يكون حزمة من الرغبات الشرهة والدوافع المادية الواعية منها واللاواعية. أدركت أن النجاح الحقيقي أن تملك الأشياء بيدك ولا تجد طريقها إلى قلبك، فتملكها ولا تملكك، وعندها لن تحزن عند زوالها عنك، ولن تفرح عند قدومها عليك.
أدركت أن النجاح الحقيقي هو أن أحسن الاستثمار في أقرب الناس إليَّ، في أسرتي لتصبح مصدر سعادتي مدى الحياة، وأن أبني علاقات أصيلة لا واهية مع أقرب الناس إليَّ.
وأدركت أن (الأنا) ستحول بيني وبين ذلك؛ لأنها لا تعترف إلا بالاستثمار في أشياء ملموسة مرئية محسوسة. قررت أن لا أكون من هؤلاء الذين حققوا شهرة واسعة ووصلوا إلى مناصب عالية وبنوا شركات ضخمة، ولكنهم استيقظوا فجأة على كبر ليدركوا أنهم حققوا وأنجزوا وجمعوا كثيرا ولكنهم خسروا أكثر، خسروا أبناءهم وأهليهم وأصدقاءهم، بل وخسروا أنفسهم وذواتهم الحقيقية.
أدركت أن النجاح الحقيقي هو أن تحاط بأناس كثيرين يحبونك حبا خالصا لما أعنتهم أو علمتهم أو ساهمت في هدايتهم وتحقيق ذواتهم ورسالة حياتهم، وأن الاستثمار في الأشياء لن يحقق لي شيئا من هذا. أدركت أن أي إنجاز مهما بدا كبيرا في أعين الناس، بل والعالم أجمع ينقلب ليصبح عين الفشل والخسارة إذا كان على حساب تلويث أجسام أصحابه وأرواحهم.
أدركت أن المعايير التي تدرس في معظم الندوات والدورات عن النجاح هي في الحقيقة معايير تستدرج الإنسان للفشل في الحياة لا النجاح. إنها معايير (الأنا) التي فينا، هي معايير وليدة الدين الجديد الذي أسموه التقدم والوعد العظيم بحرية مطلقة وإنتاج غير محدود وسعادة عظيمة.. وعد عظيم أخفق في الوفاء وباء بالفشل، فالحرية المطلقة أضحى فيها الإنسان أشبه ما يكون بالترس في آلة مهولة لا حرية فيها إلا أن يتحرك ويعمل ضمن قوانينها الصارمة، وأما الإنتاج غير المحدود فأضحى مقتصرا على بعض الشعوب، وازدادت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وازدادت الأرض فقرا بقدر ما زاد الإنسان قوة وتجردا من إنسانيته. أما عن السعادة غير المحدودة، فقد أدرك الإنسان أن إشباع كل الرغبات بغير قيود لا يؤدي إلى حياة طيبة أو سعادة أو سرور.
أدركت أن النجاح بعينه هو أن تتدفق كل أفعالك من كينونتك، من روحك، وأن تكون حاضرا في كل أقوالك وأفعالك، وأن تجد نفسك في كل ما تقوم به.. عندها سيصبح لكل ما تفعله روح، وستفعله بإتقان وبراعة، وستسير لك الأمور بيسر وسلاسة وستعمل الحياة من خلالك، وتفتح لك نافذة الإلهام لتمر من خلالها ومضات الإبداع ولا يهم وقتها نوع عملك؛ زراعة أو حدادة، نجارة أو تجارة، فليس هناك عمل كبير وآخر صغير أو عمل شريف وآخر حقير، فالعظمة تنشأ في الأشياء الصغيرة عندما نمارسها بأرواح كبيرة، عندها سيظهر الإتقان والإحسان والإبداع في كل ما نقوم به.. عندها سيعمل كل قول وفعل يصدر من الداخل عمله في تزكية نفسك وسموها ورفعتها ورقيها، فتثمر النفوس بكل حركة كبيرة أو صغيرة لتصبح نفسك سامية مطمئنة راضية مرضية.
إنه انتكاس كل الحياة بصورها وأشكالها على النفس، وهي كل ما أملك وكل ما سأغادر الدنيا به، وهذا هو الفوز والفلاح.
أدركت هنا لماذا لا تجد كلمة نجاح في القرآن الكريم وإنما فوز وفلاح، أن تفوز في الدنيا بحياة طيبة وفي الآخرة بجنة عالية فتكون من المفلحين، والفلاح أن أترك الدنيا وقد أضفت فيها شيئا نافعا، كما وصفها الرافعي بقوله: إذا لم تزد على الحياة شيئا كنت أنت زائدا عليها. الفلاح أن يكون آخر ما يقال للشيء الوحيد الذي يبقى لك بعد الموت (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
تيقنت أن النجاح الحقيقي هو أن أجعل آخر ساعة في حياتي أجمل ساعة فيها، الساعة التي يراجع كل إنسان شريط حياته فيها ويشعر بالغبطة والسعادة والسرور للقاء خالقه، أو الحسرة والندم على عمر مضى ولا يعود أبدا. عندها سيدرك كل واحد منا معنى النجاح الحقيقي.. ترى كم من هؤلاء الذين صنفوا بأنجح الناس في الدنيا سيكونون من الناجحين حقا؟ من الفائزين والمفلحين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟