الجماعات الدينية يصعب عليها التعقل، وقد تسيل فيها الدماء من أجل تأييد العقيدة، هذا لأن مصلحة الجماعة تسقط مصلحة الذات، حيث إن مؤثراتها الخارجية تعمل كمهيجات للحالة التي لا يقودها العقل، فيما أن تعقلها إن حدث لا يتجاوز الجمع بين أشياء متناقضة لا روابط بينها سوى الظاهر منها، فنجدها مليئة بالتناقضات.

للمعتقد شكلياته واتجاهاته لدى الجماعة، ولكن على وجه خاص فإننا نشاهد "داعش" كما شاهدنا من كان قبلها، حيث إن الناس في تلك الجماعات كانوا وما زالوا يرون أنفسهم أبطالا فيما يراهم المختلف عنهم قطيعا من السفاحين والبربرية الذين يمارسون أنواع الاضطهاد؛ لأجل الانقياد خلف معتقد جديد أرادوا إثبات وجوده، غير أنهم كانوا بحاجة إلى إعلان الحرب مهما كلفت الخسائر، حتى لو دفعوا بأنفسهم إلى الموت، والتاريخ يشهد بالكثير من الأحداث الدموية التي لم تتوقف إلا عند طبيعة المعتقد، إذ إن المعتقد يسيطر على الجماعة ويجعلها تعمل بمعزل عن شعورها بالدافع الذي يدفعها إلى هذا العمل، كونها خاضعة لجملة عصبية تحوي التأثير الأكبر في صياغة السلوك الفردي الذي يعمل لها طوعا ولا يتراخى لمصالحه الذاتية، وإن أرشدتهم عقولهم إلى ضرر ناتج فهم لا ينقادون إلى حكمها في الغالب، أي أن العقل هنا ينهزم أمام الشعور العقدي.

ليس بالضرورة أن الاعتقاد ينحصر في حالة دينية صرفة، ولكن العصبية التي تؤسس عليها الجماعات لا بد لها من القيام على مكون فكري يتحول إلى معتقد يبني تضامنها عليه، والواقع أن أكثر المعتقدين كانوا قد ولدوا من خلفية التعصب التي أورثتها لهم البنية التكوينية للجماعة، وشكلت تركيبتهم النفسية كضمان أساسي لبقائها واستمرارها، أي أن نزعة الحرب والاقتتال لا تأتي في أصلها إلا من هذه القيمة.

الثورة الأكثر شهرة في التاريخ كانت ثورة الفرنسيين التي قامت على فكر تراكمي قدمه الفلاسفة في قرابة مئة عام قبل وقوعها، ثم أخذه الشعب كخيار حين اعتقد بجدواه وأقامه على سجالات ومذابح دموية قلبت أوروبا رأسا على عقب آنذاك، كذلك هي داعش ومن قد سيأتي بعدها، تقدم نفسها كخيار وفق فكر تراكمي تحول إلى معتقد ووجد المنتسبون إليها الحاجة إلى تفعيله، ذلك أن الأفكار تأخذ وقتا في دخولها إلى معتقدات الناس، وتأخذ وقتا في خروجها على أفعالهم.

إن كان للتأليه والاستعباد النفسي في تاريخ البشر أشكال تختلف عن واقعنا اليوم، إلا أن الناس اليوم يستعبدون ويعبدون الصور والشعارات والمعتقدات من ذات المنحى، وبنفس الطريقة التي كان عليها سابقوهم، حتى وإن ناقضوهم أو اختلفوا معهم فيها، إلا أنهم خاضعون لسُلطة الفكر الذي تحول إلى ملكة فطرية، وألزم جماعات التدين السياسي بالرغبة في قيادة المجتمعات والسعي في سحق من يخالفها، وكل ذلك يأتي بمراعاة مقتضى الاعتقاد حتى ولو لم يعتقد سياسيوها بصحته.