أـ لا مفر في ثقافة اليوم أن نعيش حالة ثقافة الصورة ولا مفر أن نكون منفعلين بهذه الثقافة، وأن تكون الصور المبثوثة هي المصدر الجوهري في صناعة التصورات الذهنية، حتى لتصبح الذهنية هي المنتوج اليومي لهذه الصور، ولهذا فإن الجبروت الإعلامي لإيران مع جبروتها العسكري هما معا ينفذان داخل المشهد العربي اليوم، عبر الخطابة الإيرانية مصحوبة بالعمامة واللغة، تبثها الشاشات المدعومة من إيران وتبلغ العشرات وكلها باللغة العربية، ومنها ما هو حزبي رسمي مثل المنار أو منبر مدعوم مثل الميادين، وفيها يجري تصنيع الصورة وتسويقها ومن ثم غرسها في المتصور الذهني حيث يظهر خطباء موسومون بالصورة والمفردة التي لا تنفك تبث صيغتها المتواصلة، مضافة للقوة على الأرض حتى لترى قاسم سليماني (رمز العسكرية والحرس الثوري) ومعه ترى حسن نصر الله يخطب وتتحد الصورتان في تشكيلة شاشاتية تكونت وترسخت عبر سنوات.

هاتان صورتان تصنعان صيغة ذهنية ثقافية، ولو ابتدأنا بالسيد حسن نصرالله الذي كانت صورته تثير الأمل والنصر في نفوس كل العرب حين كان يخطب باسم المقاوم، ثم ما لبثت الصورة أن أحدثت تحولا سلبيا جعلته يتحد مع قاسم سليماني في تشابك ما بين صورة الخطيب وصورة القائد في الحرس الثوري حتى صار هذا هو ذاك، وأقواها هو خطابات السيد حسن التي طرح فيها مقولته بأن الطريق للقدس يمر عبر الزبداني، وهي امتداد لمقولات أسست لهذه، حيث قال أولا إنه يرسل قواته لحماية القرى اللبنانية في سورية (تصور مصطلح القرى اللبنانية في سورية)، ثم قال إنه يرسلها لحماية مقام السيدة زينب في دمشق، ولكنه ما لبث أن قال إنه هو من حمى الأسد من السقوط، ولولا تدخله لسقط الأسد في ساعات. وكل هذه صيغ خطابية تزيد من سبك الصورة في تماه تام مع صورة قاسم سليماني حتى صار السيد خطيب حرب ووعد ووعيد ليكمل صورة سليماني بوجه الغازي لأربع عواصم عربية، بثنائية اليد واللسان (حسن/ قاسم) وبهما تنغرس الصور.

هنا تتشكل صورة سلبية تبدأ من معرفة كل عربي بأن إيران تقوم على عنصري الولي الفقيه النائب عن إمام الزمان، ومن مقتضاها أن الأرض كلها هي مملكة الإمام الغائب وعلى الولي الفقيه أن يمهد الأرض لظهور الغائب، وهذا يستلزم العنصر الثاني وهو تصدير الثورة، ومن هنا فإن اتحاد صورة ولغة السيد حسن مع قاسم سليماني ستكون صيغة بنيوية قسرية تفرضها ثقافة الصورة وجبروت السلاح لتقول إن المشروع هو مشروع للاحتلال والاستيلاء على أربع عواصم عربية والباقي في الطريق، من أجل تحقيق حلم كان مسكوتا عنه، ولكن الصورة وقوة السلاح صارت تكشف عنه.

ب ـ تلك صورة تفرضها ثقافة الصورة بتعمد إيراني تتقصده وتمضي فيه عبر الشاشة والخطابة وعبر ما يجري على الأرض من قيادة قاسم سليماني للحشود الشيعية وكتائب الحرس الثوري في سورية والعراق معا، مع تعمد بث صوره وهو يقود الكتائب، مثل تعمد السيد حسن الظهور على الشاشات مع كل حدث سياسي بالمنطقة، وهذا ما نتج عنه طمس صورة شيعية أخرى تتمثل بالتيار الشيعي الوطني، ومن أهم رموزه السيد محمد مهدي شمس الدين (انظر المقال التاسع من هذه السلسلة)، وحسين فضل الله، وعلي الأمين، وهؤلاء يمثلون مفاهيم المواطنة والتعايش ويرفضون وصف الشيعة بأنهم أقلية، ويرون أنهم أفراد واقعيون يعيشون واقع أمتهم وهمها وتاريخها ولا يمثلون أي معنى من معاني الانفصام أو التمايز الفئوي أو الطائفي، في حين أن إيران تسعى إلى غرس مفهوم الطائفية وتقويته لكي تفصل الجسد الشيعي عن الجسد العربي وتجعل أحدهما حليفا لها والآخر عدوا تقام عليه الحرب، وهذا ما نراه في خطابات السيد حسن نصر الله حين يصف الشعب السوري بالتكفيريين والإرهابيين وجرى تدمير الزبداني والقصير وحلب وإدلب ولم تسلم شجرة ولا طفل ولا امرأة في سورية، مثلما جرى من الحوثي في اليمن سواء بسواء، في صفات التكفير ومظاهر التدمير.

ويصحب هذا نوع من نشر ثقافة الخرافة، فالحوثيون اشتهر عنهم الاستعانة بالسحر والتمائم يتحصن بها الزعيم نفسه لتحميه من الصواريخ ومن محاولات الاغتيال، وكذا يعد جماعته بالجنة ويضمنها لهم، ومثله يتم تجنيد الحشود في لبنان للحروب المقدسة ولطاعة وعد الإمام الغائب، ليهب الشباب تحت هذه الوعود المقدسة، وستصبح الزبداني أهم الأهداف عنده لأنه سيدخل الجنة إن مات، أو سيتجه إلى القدس إن انتصر، وتحت هذه الوعود تتحرك الدماء الحارة للقاتل والمقتول، وبأي ذنب قتلت هذه النفوس غير ذنب صناعة الطائفية عبر تصدير الثورة ووعدها بظهور الغائب. ولكن الغائب كان وعدا بنشر العدل، غير أن النائب عن إمام الزمان ينشر الموت والظلم. وهنا يبرز السؤال الأخلاقي: كيف للظالم أن ينوب عن العادل!

ج_ عبر ثقافة الصورة يجري الربط القسري للتشيع مع النموذج الإيراني (وهو النموذج السالب) في مقابل طمس النموذج الإيجابي (نموذج شمس الدين)، وتجري محاصرة النموذج الوطني وإقصاؤه حتى لتتفرد الصيغة الإيرانية بالمشهد وتحتل العيون ومن ثم الذواكر، وكأن الشيعي أصبح نشازا وطنيا، وكأنه ينتمي لوطن آخر، وهو وطن متخيل عبر نظرية الإمام الغائب، أو مادي عبر مقولة الولي الفقيه (نائب الغائب)، وهنا سيتحفز المواطن السني تحت مظنة أنه يتعرض لغزو يكتسح وجوده مثلما يكتسح تاريخه وعلاقة ضميره مع موروثه كله ومع وطنه وواقع معاشه، ويتعمد النموذج الإيراني كسر العلاقة الوجدانية بين السني وبين آل البيت بمحاولة إظهار السني وكأنه ناصبي يناصب آل بيت رسول الله العداء ويوصف حينها بالتكفيري والإرهابي، وفي مقابل هذا ستسعى إيران لفصل الشيعي عن وطنه وتحويل ولائه كي يتبدى الشيعي خائنا لأرضه وأهله ويستبدل بهم أهلا غير الأهل ودارا موعودة غير وطنه الأم.

وإن كنا وعلى مدى قرون نعرف الوجه الطبيعي للشيعي والسني معا وكان هو الوجه الواقعي الذي نعيش معه ولا نسأل ما هو ولا هو يسأل ما نحن، ولكن الناشز والشاذ تقدم ليصبح هو متن الخطاب ومفترضاته، وصرنا في ثنائية وطنية، بعضنا سنة وبعضنا شيعة وهذا ليس على قلب ذاك، والوطن منشطر على ذاته.

هذه نهاية حتمية لثقافة الصورة كما نمر بها اليوم (2015)، وهي الصورة التي تصنعها الآلة الإيرانية إعلاميا وعسكريا، وتؤكده الخلايا الإرهابية التي تتكشف كل يوم، وخطب السيد حسن التي تشيع تلك المفردات وتذكرنا بها كلما حاولنا تناسيها، إضافة إلى صورة الحوثي بتمائمه وسحرياته.

د ـ ما رسمناه هنا هو حالة ثقافية من حقها أن تكون نشازا، وقد كانت نشازا على مدى قرون، وكانت تسكن في الكتب أو في منابر ظلامية عند هؤلاء وأولئك، ولكنها مع زمن الخمينية برزت على سطح المشهد، وبدأت بتفجيرات الحرم المكي في الثمانينات ثم تعززت مع انفجار الفضاء الإعلامي لتظهر العمائم وهي تقدم الوعيد، في مقابل انحسار العمائم حاملة الوعد، وما بين نوعين من العمائم تتراجع واحدة حتى لكأنها غير موجودة، حيث توفى الله بعضها وتم إقصاء بعضها، ثم تتقدم واحدة سالبة لتحتل الفضاء البصري.

ونحن هنا في معركة للضمير وبالضمير وفي الضمير، ولهذا تجري محاولات محاصرة النقد حتى ليجري تصوير كل نقد لإيران على أنه نقد لآل البيت، ويصبح الناقد ناصبيا وطائفيا، وهذه من أشد أسلحة الغازي في تدمير خصومه معنويا، مثلما أبعد السيد الطفيلي، وتم نفي علي الأمين من لبنان، وتتم محاصرة السيد السيستاني في العراق لأنه ضد ولاية الفقيه، تماما كما تجري ملاحقة من يقرأ الظاهرة بسلاح من الصفات الإقصائية من أجل إبطال مفعوله، والشاهد هو ما تعرضت له مقالاتي هذه من منظومة صفات ضدها شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات. ولن تسلم لنا ثقافتنا دون أن نحامي عن قيمها في مفاهيم المواطنة والتعايش والسلم الاجتماعي والعقلي، وكذلك السلمي البصري عبر تنظيف الصورة من ثقافة السلب (يحسن هنا أن نعود لقراءة المقال التاسع من هذه السلسلة كي نعالج عيوننا بجرعة من معاني الإيجاب).