تعتبر الكتابة الصحفية العربية عملا نبيلا وشاقا، إذ يستعرض الكتّاب ساعات طويلة من المشاهدة التلفزيونية والاستماع إلى نشرات الأخبار والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء، هذا بالإضافة إلى قراءة الكثير من المقالات في الصحافة العالمية التي تتحدث عن المواضيع التي تهمّ القارئ العربي الذي يعتبره الكتّاب العرب في الصحافة المكتوبة الغاية الأساس للكتابة الصحفية.
يعرف كل المتابعين للإعلام العالمي المكتوب أو الورقي أنه يعيش ساعته الأخيرة بعد صراع بدأ مع ظهور الإذاعة ثم التلفزيون إلى أن جاءت الفضائيات والأقمار الصناعية وما عرف بثورة الاتصالات، حيث أصبح كل فرد أو أي طفل وسيلة إعلامية بحدّ ذاتها.
حاول الإعلام المكتوب أن يؤكّد على ضرورته عبر ابتكاره قارئاً جديداً بعيداً عمّا تغطيه الأخبار الإذاعية والمتلفزة. فكان الإعلام المكتوب يبتكر الأبواب الجديدة، من الثقافي إلى الفكري إلى الرياضي والبيئي والشبابي، إلى الاقتصادي والصناعي.. وتقريباً لم يترك الإعلام المكتوب مجالاً من المجالات إلاّ وابتكر له صفحة من الصفحات.
أقفلت العديد من الصحف العريقة عالمياً أو تحوّلت إلكترونيّاً. وقد طالت معاناة الصحافة المكتوبة أيضا الإعلام الإذاعي الذي أيضاً سقط أمام الصورة وقوّتها وتأثيرها في تثبيت مصداقية الحدث، إذ إنّ معظم متابعي الأخبار التلفزيونية يتفرّجون على الأخبار ولا يتابعونها، رغم أنه كان للإذاعة تاريخها وتأثيرها في الحربين العالميتين وأيضاً في الحرب الباردة، وقد كانت أكثر تأثيراً من الإعلام المكتوب، واستُخدمت كقوة تأثير بالغة الأهمية. كما أن هناك إذاعات عالمية صنعت سياسات كبرى وربما لا تزال.
لا نستطيع أن ننكر تطوّر التكنولوجيا الإعلامية وأهميتها في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي كل مجال. وهي تقوم بدور الذاكرة الجماعية للبشرية تقريباً، فقد أصبح من السهل العودة إلى الأحداث والشخصيات والإنجازات والحروب والحقبات التاريخية الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وأصبح من الممكن إغناء كتاباتنا وأحاديثنا بحقائق موثقة وواضحة.
تعتمد الصحافة العالمية الآن على الكتّاب والتحليلات والدراسات أكثر بكثير من الخبر الذي أصبح متاحاً بصورة غير مسبوقة. ويستطيع كل حامل خليوي أن يتلقى الأخبار لحظة وقوعها وبدون العودة إلى مصادر الأخبار التقليدية من إذاعات وتلفزيونات وصحف أو وكالات أنباء، فيما تتنافس الصحف العالمية العريقة والكبرى على استقطاب باحثين كبار وأكاديميين من أجل التعمّق في الأحداث فيما يتعدى الخبر، أي الذهاب إلى عمق الأحداث وخفاياها وتقاطعاتها.. وهذا ما كانت تقوم به قديما الصحافة الأسبوعية المكتوبة.
تتعاظم الأحداث والتدخلات الدولية والإقليمية في منطقتنا. وتتصدر تقريباً المنطقة وما يدور فيها نشرات الأخبار الدولية والإقليمية، وتكاد تكون العنوان الوحيد لأحاديث وتصاريح المسؤولين الدوليين، وإلى حد بعيد قد تكون الموضوع الوحيد خلال اجتماعات كل القادة والرؤساء والوزراء الدوليين. وقد شاهدنا ذلك خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كان ما يدور في المنطقة هو موضوع كل خطابات رؤساء الدول الكبرى.
أصبحت الآن الكتابة الصحفية تحدّياً كبيراً، وهذا ما تقوم به الصحف العربية وكتّابها، إذ يجهدون في إيجاد المواضيع التي تحتاج إلى تعمّق وتفكير وبحث في ما هو أبعد من الخبر بحد ذاته، شأنها شأن الصحافة العالمية. وتحاول الصحافة العربية المكتوبة التصدي للاستخدام السلبي لوسائل الاتصال الاجتماعي، إذ أصبح كل مواطن معلِّقاً صحفياً يردح على هواه دون إدراك مدى خطورة الفوضى الإعلامية وما قد تنتجه من فوضى اجتماعية أو أمنية.
لا بدّ من الاعتراف بصعوبة مهمّة كتّاب الصحافة اليومية وخصوصاً في مثل هذه الأيام التي تتطلّب الكثير من الدقة والحذر وحسن التعامل مع الأحداث. ونستطيع القول إنّ الكتّاب العرب إلى حدّ بعيد يعملون تحت سقف الاستقرار وتوضيح المعتدي، بعيداً عن عملية جلد الذات التي سيطرت على الكتّاب لسنوات. وأيضاً يجب أن نعترف أنّ الصحافة المكتوبة استطاعت أن تستقطب كبار الأكاديميّين والباحثين وأن تحافظ على وظيفتها بكلّ أمانة رغم هول التحديات.
قيل قديماً عن الصحافة المكتوبة إنّها مهنة المتاعب، لأنّ الصحافي كان يذهب إلى حيث الحروب والأحداث. وهي كذلك الآن بالنسبة لكل المراسلين الصحفيّين حيث الأحداث من الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، لأنّ حياتهم تكون محفوفة بالمخاطر الكبيرة. ولا شكّ أنّ تطوّر الإعلام قدّم خدمات كبيرة في حفظ سلامة الناس لأنه يحظر على الآخرين من سلوك هذا الاتجاه أو ذاك. وعلى سبيل المثال كان اللبنانيّون في بداية الأحداث ينتظرون برنامجا إذاعيا كان يبثّ مباشرة ليرشدهم على الأحياء التي تشهد اشتباكات وأي من الطرق سالكة وآمنة..
ستزداد كل يوم، إن لم نقل كل دقيقة، تحديّات الصحافة المكتوبة أمام تطوّر وسائل الإعلام، ورغم ذلك لا أتصور عالما بلا كتّاب وباحثين. يستحق القارئ العربي ذلك الاهتمام الكبير من الكتّاب العرب لأن اللحظة الراهنة تحتاج إلى عقول باردة تعمل على تعزيز التماسك في مجتمعاتنا الوطنية.