عندما تدخل مقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، لن تجد فيه ما يشي بالتاريخ المتواضع للأرض التي أقيم عليها. ففي عام 1945، عندما تأسست المنظمة، ظلت عدة سنين لم تجد لها مكانا بسبب عدم وجود تمويل أو إرادة سياسية لبناء مقر يليق بالمنظمة الوليدة، إلى أن تبرعت لها أسرة (روكفلر) بقطعة أرض رخيصة الثمن في شرقي (منهاتن) كانت مقرا لمسلخ المدينة يسكنها الفقراء والمشردون. ولكن روكفلر جنى مكاسب طائلة من تلك المكرمة البسيطة. هذا ما كنتُ أفكر فيه وأنا أسترجع الذكريات عن عقدين من الزمن قضيتهما في هذه الأنحاء.
فماذا حدث؟
تم إقرار النظام الأساسي للأمم المتحدة في يونيو 1945 في (سان فرانسيسكو)، وتأسست المنظمة رسمياً في أكتوبر بعد مصادقة الدول عليه. وعرض عدد من الدول استضافة المنظمة الدولية الجديدة، ولكن لم يكن هناك توافق على أي منها. حتى بعدما عرضت عليها الولايات المتحدة أن يكون مقرها في أميركا، كانت هناك معارضة لهذا الخيار، حتى من دول حليفة مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا.
في نهاية المطاف وافقت الجمعية العامة في اجتماعها في لندن عام 1946 على العرض الأميركي، ولكن مجرد العرض الأميركي والقبول الأممي لم يكونا كافيين، فلا بد من وجود التمويل لشراء الأرض وبناء المقر، فلم يكن لدى المنظمة موارد مالية لتوفير ذلك، واضطرت أن تعيش مشردة لعدة سنوات (1945-1952)، حين كان مجلس الأمن، والجمعية العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي – المؤسسات الثلاث الرئيسة في الأمم المتحدة – تعقد اجتماعاتها في مدن ودول مختلفة.
كان لدى مؤسسي الأمم المتحدة في عام 1945 حلم بأن يبنوا مدينة كاملة مستقلة تكون عاصمة للنظام الدولي الجديد، ولكنهم اضطروا إلى القناعة بمجمع أصغر يتناسب مع الواقع السياسي والمالي. وكانت المنظمة تناقش عدة خيارات لموقعها في أميركا، دون التوصل إلى توافق، عندما تبنت أسرة (روكفلر) إيجاد مقر مناسب للمنظمة. وبالطبع كانت الأسرة من أغنى أغنياء العالم، ثروتهم النفط والعقار وغيرهما. ولما كانت مصالحهم الاقتصادية تمتد في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المملكة العربية السعودية إذ كانوا أهم الشركاء المؤسسين لشركة (أرامكو)، فإن السلام والأمن الدوليين أمران مهمان لهم، خاصة بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.
ولكن لآل روكفلر مصلحة أخرى في مساعدة الأمم المتحدة على الاستقرار في نيويورك، فإن نجحوا في إقناع المنظمة بالبناء قريبا من الأراضي والعقارات التي يملكونها فإن قيمتها السوقية سترتفع حتما، بالإضافة إلى تحسين سمعة الأسرة المثيرة للجدل، عندما يُعرف أنهم ساعدوا المنظمة على حل أزمتها السكنية. وتولى المهمة (نيلسون روكفلر) الذي أصبح لاحقاً حاكم نيويورك (1959-1973)، ثم نائباً للرئيس جيرالد فورد (1974-1977). وفي البداية عرض على الأمم المتحدة أرضا في منطقة تملكها الأسرة في قرية (كيكويت) التي تبعد عن منهاتن (35) كيلومترا. ولكن العرض رفض بسبب بعدها عن المدينة. ولو قبل عرضه ذلك، لارتفعت أسعار العقار والأراضي في تلك القرية، التي كان آل روكفلر يمتلكون معظمها.
ثم عرض روكفلر أرضا في وسط منهاتن، قريبا من عقارات تملكها الأسرة، فيما يعرف بـ (تيودر سيتي). وكان الموقع مثاليا، متوسطا، يمتد على النهر مباشرة، ومن ناحية أخرى كان هذا الحي سيئا وغير مرغوب طوال تاريخ مدينة نيويورك، فقد سُمّي تارة بـ (تل الماعز) بسبب الماشية السائبة فيه، يسكنه المشردون، ثم اختارته المدينة لإقامة المسلخ المركزي، ما أدى إلى انخفاض أسعار الأراضي فيه. وكان روكفلر وملاك العقار الآخرون في المنطقة مستائين من الوضع، ويرغبون بقوة في تحسين وضع الحي وإبعاد المسلخ والمباني المتهالكة عنه. فلو قبلت الأمم المتحدة العرض، لحققوا مكسبا ماديا كبيرا، ولاعتبروا في الوقت نفسه أبطالا يساعدون المنظمة الوليدة والسلام العالمي.
وتعهد (جون روكفلر)، والد نلسون، بتحمل تكلفة الأرض وإهدائها للأمم المتحدة، وكانت مساحتها تقارب (70) ألف متر مربع، أقل بكثير مما كان مؤسسو المنظمة يطمحون إليه، وقيمتها السوقية وقتها (8.5) ملايين دولار.
نجحت الخطة، فقبلت المنظمة منحة روكفلر، ومنحتها أميركا قرضا بقيمة (65) مليون دولار لإنشاء المقر. وتحسن منظر الحي: أزيل المسلخ ومعه المباني المتهالكة والروائح الكريهة، وارتفعت قيمة العقار فيه أضعافا، واستعاد روكفلر أضعاف ما منحه للمنظمة، فالمبلغ الذي كلفته إياه الأرض (8.5) ملايين قد تشتري به اليوم شقة أو مكتبا متوسط الحجم، لا غير، في هذا الحي.
ولمساعدة المنظمة أكثر، وربما ليتأكدوا من أن يتم بناء مقر الأمم المتحدة بالشكل المناسب لهم، تولى مكتب (والاس هاريسون)، وهو من أصهار روكلفر، الإشراف على تنفيذ التصميم الذي اختير بعد مسابقة شارك فيها معماريون من جميع أنحاء العالم، وكان التصميم النهائي مزيجا من تصميم للمعماري البرازيلي (أوسكار نايماير) والفرنسي (لو كوربيسير).
وهكذا نجح آل (روكفلر) في تحقيق صفقة مربحة للجميع، ففي الوقت الذي أظهروا اهتمامهم بالعمل الخيري والسلم الدولي بدعم المنظمة الوليدة وتوفير الأرض مجانا لها، مما حسّن سمعتهم وقوى مكانتهم الاجتماعية، فإن عقاراتهم وأراضيهم القريبة من المقر ارتفعت قيمتها أضعافا مضاعفة! وهذا درس فريد في بُعد النظر ومردود المسؤولية الاجتماعية.