يكتنز المشهد الإعلامي بقراءات حول الحالة الإيرانية، هي في غالبها قراءات ذات اتجاه واحد، حتى لتجزم مع كل حادثة أن تفسير الحادثة سيكون بوصف أحد الطرفين (السني أو الشيعي) بأن الطرف الآخر إرهابي وطائفي وأنه سبب المصائب، وسيبلغ القول درجات خطرة كأن تسمع أن الحل هو (اجتثاث) الطرف المستهدف في الخطاب. ولن يختلف نسق الخطاب إلا من حيث تبديل صيغة الفاعل، وهو سني تارة وشيعي تارة أخرى، ويظل الفاعل في صيغة الموصوف بأن بقاءه هو الفيروس الذي يجب سحقه والخلاص منه، والكل يقولها عن الكل. ومصطلح (الاجتثاث) هو الخاتمة الحاسمة كجواب لحل الإشكال، وقد تم تنفيذ ذلك في العراق من بعد 2003 وما زال هو المعنى المطلوب وإن بصيغ متبدلة حسب شرط الحالة. ذاك خطاب سلبي مشترك عند الطرفين السني والشيعي وستراه كلما تمت عملية تفجير أو تم الكشف عن مخازن سلاح ومتفجرات مدفونة تنتظر موعد الصفر. وأنت فيهما أمام خطاب واحد يطلقه كل طرف على صاحبه تبعا لراهن الحادثة ونوعية المنفذ لها.

أما مقالاتي (14 مقالا) فهي ليست مع هذا ولا مع ذاك، وهي لا تبرئ هذا ولا ذاك، ولكني جهدت كي أبحث عن سيرة نصوصية لهذه الحالة التي ستظل عندي تحت مسمى (الحالة الإيرانية) لأنها نشأت ظرفيا وعمليا مع ظرف الثورة الخمينية وشعاراتها التي تسير لغة الأحداث منذ 1979 حتى سقوط آخر الأقنعة في 2003 وهو عام انتصار شعار تصدير الثورة، حتى صرت ترى صور الخميني تغطي شوارع بغداد مثلما غطت الضاحية في بيروت، وغزت دمشق وأنحاء سورية ووصلت للبحرين واليمن.

ثم تبع ذلك ظهور (داعش) وهي الحالة التي ستراها في الخطاب السائد إعلاميا تحت مظنة قراءات متعددة يجمعها رابط واحد هو قطع المتحدث بمعرفة حقيقة داعش وأن الحل هو اجتثاثها، وهذان عنصران ثابتان في الخطاب الإعلامي المشهود اليوم، وهنا سترى أن القول واحد والقائل متعدد، بدءا من أميركا وأوروبا، ثم روسيا مرورا بالأسد وبإيران، وكل واحد من هؤلاء يقول إن المشكلة برمتها هي داعش ولا غيرها، ويشترك مع هؤلاء مجاميع سنية سواء من أهل الإعلام وكتاب الصحف أو من الرسميين والزعامات، حتى ليجعلوك تتصور أن اختفاء داعش سيجعل سورية جنة الله في أرضه، وسيعيد أمجاد بغداد ويعم السلام والمحبة والديموقراطية في أرض العرب، كل العرب.

هذا هو الذي ستخرج به من مضامين المشهد الإعلامي المشترك بين كل نشطاء الإعلام من كل الفرق، مع أنهم على عداء سافر مع بعض لكنهم يتفقون دون توافق مبرم.

ولكن داعش لم تنته ..... وهي منذ أكثر من ثلاث سنوات تتنامى، كما أن مأساة العراق وسورية سابقة على ظهور داعش، والجميع دخل للعبة بحجة القضاء على داعش ولكن الكل يزيد النار اشتعالا. وهنا سيرتبك المشهد أمامك حتى لتكاد تقطع أنك في نص درامي لا يسمح لك بأن تتدخل في الحدث الدرامي ولا أن تطرد أحدا من الممثلين، ولن تسير درامية الحدث إلا بشرط بقاء كل الممثلين مع تعاقب الفصول، ولو تعرض بعض العناصر للاختفاء ارتبك النص وتعطلت المسرحية.

نعم أنت أمام مشهد درامي (تراجيدي) يجعلك تنسى بدايات النص وتندمج مع سيرورة الحدث حتى لتتماهى معه وتنسى أن تسأل كيف بدأت الأحداث وكيف ستنتهي؟ وأنت في العمل الدرامي تترك نفسك عادة طوع مسار الحدث، وتظل تعطي لكل لحظة ما تتطلبه من معنى سريع ما تلبث أن تنساه كلما جاءك حدث آخر.

ولو حدث والتفت ولو لوهلة فستدرك أن تاريخ الثورة الخمينية وتاريخ هذه الدراما يتطابقان من حيث تعاقب الفترات وتصاعدها ومن حيث ظهور فرص تسنح كل مرة ثم تكون السانحات في مصلحة إيران على نقيض مصالح الحال العربية. (انظر المقال العاشر)

ولست أقول إن إيران هي من يصنع ويخطط، ولا أتصور أن لديها قدرات سحرية أو خوارقية لفعل ذلك، ولكنها هي من يستفيد. وبما أنها تستفيد فلن يكون من مصلحتها أن تنتهي المسرحية. ولا شك أن إيران جاءت لسورية تحت مظلة مكافحة الإرهاب، ولا شك أيضا أن الإرهاب لو انتهى في سورية فلن تجد إيران شعارا تتشفع به، وحينها سيكون الإرهاب خدمة عظمى لإيران، وستراها تتغذى بهذا العنوان وتستظل بظله، وستقول إنها هي من تتصدى للإرهاب، وإن كانت من جانب آخر ترسل المتفجرات للكويت والبحرين والأردن وللسعودية وطبعا للعراق وسورية. وهنا لن نكون أمام قطعيات تجزم بالسبب وتجزم بالحل، كما هو الشأن الممارس عند المحلل السني والمحلل الشيعي معا.

لن نكون في القطعيات ولكننا سنكون (في) الأسئلة. وسيحتم علينا التاريخ أن نحترم سيرورته، والتاريخ يكشف أن عام 1979 كان عام شؤم لشعوب إيران ولم يكن عام خلاص، كما أنه عام شؤم للجار العربي ولا يعطي أية وعود ولا أية بشائر.

على أن غياب أي دور إنساني عالمي لإيران هو ما يفرض التساؤل، ولا أحد في العالم كله يتناقل خبرا عن أي مبادرة إنسانية إيرانية، وكل ما يعرف عنها هو شيطنة الكون كله، وهذا ما دارت حوله مقالاتي متلمسا عبرها طرق التصور لخطاب تحولت راهنيته لعقدة تحليلية تحاصر الباحث الناقد، وكأنه يمشي على مزارع ألغام. لدرجة أن كل ما كان نشازا تاريخيا صار اليوم حقيقة ماثلة. وبذا ستكون الأسئلة هي أدلة القراءة وبراهينها، ومع كل سؤال توجهه نحو ما نسميه بالحالة الإيرانية سوف تضع يدك على إحدى عقد الحبكة الدرامية / التراجيدية. وهذا ما جعل كل مقال من مقالاتي ينطلق من سؤال حول أحد مظاهر خطاب (الحالة الإيرانية).

على أن سؤال كل الأسئلة هو ذاك الذي يمس جوهر نظرية المرشد الأعلى للثورة، بما أنه يعطي نفسه شرف مهمة النيابة عن إمام الزمان ووعد العدل الذي سيحرر المظلومين، ولكن الذي يحدث من مشروع تصدير الثورة هو ملء الأرض بالمظالم وليس بالعدالات وفي سيرة الثورة الخمينية كلها رأينا الدماء والدمار، ولم ير العالم في أي ناحية من نواحيه أي بشارة إنسانية لا في إغاثات ولا مساعدات ولا نشر رسالة للسلام ولا للمحبة، وكل صادرات إيران هي متفجرات وتحزبات في لغة الوعيد والتهديد، ويندر أن تسمع من خطيب إيراني في أي محفل عالمي إلا لغة التوعد والشيطنة، وهنا يقفز السؤال المرعب عما إن كان للظالم أن ينوب عن العادل (المنتظر للظهور) وهو سؤال ديني وأخلاقي وإنساني، وكلها لا تتوفر في خطاب الثورة ولا في خطبائها ولا في مسلكياتها. وهذا في النهاية هو المكون البنيوي لخطاب الخمينية وما تفرع عنها من حزبيات وتنظيمات وسلوكيات.