هذا المقال عن مهاراتٍ فردية، لكنّها ليست كرويّة، وإنما لغوية.
منذ اطلاعي على ديوان حسن القرني: "ما لم أقل"، قبل سنوات، وأنا أهجس بتجربته؛ ذلك أنه لم يسِر مع الشعراء في "الطريق السريع"، وإنما اختار "مَفْرقاً" فرعيا، وسار فيه وحيدا، فكان فريدا.
أقوى السمات التي تجذبني في قصيدة حسن القرني، هي: موسيقاها التي تنقض المألوف الموسيقي، إذ لا يهتم -كما يبدو- باختيار البحر الذي قال النّقاد بصلاحه لموضوعات دون أخرى، ليفك بذلك الروابط التي يعتسفها النقّاد اعتسافا بين: التجربة الشعورية، أو الموضوع من جهة، والأوزان والتفعيلات من جهة مقابلة.
حسن القرني قد يصوّر تجربة شعورية مؤلمة، من خلال وزن قصير راقص أومجزوء لم يعدّه النقاد في الأوزان الصالحة لتصوير الألم، ليثبت لنا أنه لا ارتباط ملموسا بين: الأغراض، والأوزان العروضيّة، وأن اللغة هي الوعاء، والموسيقا الداخلية هي المعين على ملاءمة السائل الشعري للإناء، فالقرني يكتب على البحر الواحد شعرا ذا عواطف مختلفة، وموضوعات متباينة، فتصل تجربته، وذلك ناجم عن أمرين هما: الصدق بمعناه الحقيقي لا الفني، والمهارة الآتية من كثرة "التمرينات الشعرية" والقراءات والمقارنات.
القرني مختلف ومفاجئ حتى في نصوص البدايات التي تظهر على وجوهها ندوب لغوية ناجمة عن عثرات سبقتْ وقوفها متبخترة أمام القارئ. يقول في قصيدة عنوانها: "غياهب":
بين أنْ تشعري وبين لهيبي..
أُممٌ من تسعّريْ ونحيبي..
****
فزِعٌ من توارثٍ ليس يأتي..
موتُ كهلٍ إلا بكهلٍ معيبِ
وبعيدا عن تكلّف لفظة: "معيب" في القافية، وبدائية الاستخدام، ومنطقيته التي لا تصلح للشعر، إلا أن القارئ أمام شعر مختلف ذي تجعدات لغوية كأنها العلامة الفارقة، التي أوجدتْها ألفاظ غير متوقعة. وعند الإعادة يكتشف القارئ أن الألفاظ المفاجئة ليست مفاجئة إلا في الذاكرة المعجمية الشعرية "الاعتيادية" فقط. هنا -مثلا- جاءت لفظة: "تسعّري" مفاجئة، بوصفها مكوّنا من مكوّنات أُمم الشّاعر الملتهبة الباكية، بيد أنها ليست مفاجئة عند ربطها بلفظة: "لهيبي"، في الشطر الأول، إذ تكوّنان معا شكلا من أشكال "مراعاة النظير" بمفهومه الذوقي لا البلاغي.
تجربة حسن تتطور بسرعة تليق بإخلاصه للقصيدة، وقد تعمدتُ إيراد الأنموذج السابق، لمقارنته بأنموذج من جديده، نجده فيه يرقص ويغني باكيا متالّما. يقول:
ها أنتَ يا قلبي
تعودُ
وقد نهيتُك أن تعودا
لو كنتَ غيرَكَ
ما اتخذتُ عليك من وجعي شُهودا
ولقد وعدْتَ
ومثلها –يا قلبُ–
لا ترعى الوعودا
هنا سلاسةٌ دالةٌ على أنه صار يغني، عوضا عن أن يبحث عن ألفاظ تقيم وزنه، وأخرى تتم قافيته، والغناء درجة عليا في الشاعرية العربية، وليس أدل على الغناء من تكرارية: "تعود"، و"تعودا"، والموسيقا الداخلية الناجمة عن التجنيس الجزئي بينهما، و: "وعدْتَ"، و"الوعودا"، فضلا عن ترجيع صوت العين في جل الألفاظ، لتعود -لا حسيا عند القارئ- إلى العين في: "وجعي"، حيث يكون نطقها عميقا كعمق الألم.
صديقي حسن:......، ثم دَعْ غيرَ الشعر تكنْ.