كيف يا قلم ما زلت تتحرك والقلب يُطحن يوميا في رحى آلام مُجنزرة! الأصابع ترتجف والروح تعيش مر الجراح والجوارح تصرخ في مدى بلا صوت بلا صدى، كيف أصبحنا شتاتا في أرض كانت يوما واحدة! بت أعيش حيرة عروبة قُذفت في ظلمة نهار وضوء ليل لا يُرى، لم نعد نعرف إن كانت اليد الممدودة تحمل خنجرا أم زنبقة، تحطمت البراءة على صخور الجهل، واستبيحت العقول ببغاء النخب المثقفة، أولئك الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، خلطوا الحق بالباطل فأضلوا المجاميع باستحداث أو ترديد مفاهيم غامضة مضللة أو نقل وتحليل معلومات على أنها حقائق وهم على يقين بأنها آراء مفبركة.

لقد استباحت بحار العالم لحمنا بعد أن اغتالت أرض المعارك أحلامنا المبعثرة، كيف لدمعة أن تجف وقد أضحت تغفو على فجيعة وتصبح على مجزرة، ماذا بقي للحرف من قول في غياب الأخوة وضياع المرجلة! توسلت الأبجدية أن تقتحم رأسي... أن تنفضه، ضحكت وأجابت: "ليس الآن انتظري إلى حين ميسرة"!

كيف لهذه الهزائم أن تُخدّر الإنسان بدواخلنا بدلا من أن تُفجّره! هُزمنا بالتخلف، بالجهل، بعشق الثرثرة! صروح العلم تختال بيننا علوا وهي من الداخل فارغة، بدلا من خلق التفكير أضحت له مقبرة! مطابع تُخرج الغباء وتحتفي به بكل مفخرة؛ هذا يتحدث عن فتاوى جعلت منا مسخرة والآخر يزقزق عن اللبن ويبحث عمن على صدره يدهنه! القتل أصبح طريقا للسلام والحوار أصبح للوقت مضيعة! ضاقت الصدور وبتنا نعيش كل يوم ملحمة! نكره الوحدة ونعشق التفرقة، نتسلق العُلا ونُكسّر السلالم وندفع بكل مختلف إلى المحرقة، ثم نسجل الموقف في مشاهدٍ نتبادلها ضاحكين حد القهقهة! شتان ما بين من يبني العقل ومن يُخدره، شتان ما بين من يُشغّل عقله ومن يؤجره، شتان ما بين من يبني الوطن وبين من يهدمه، شتان ما بين من يبيع ومن على الروح يُفضله، شتان ما بين من يرى الاختلاف ثروة وبين من يراه ترابا للبعثرة!

قدس العروبة لم تكن يوما لبني صهيون مرتعا حتى تُنجس بأقدام عسكرهم، وعليه فإن "هبّة القدس" لم تأت مفاجأة، شباب قيل إنهم ليس لهم ذاكرة، ولدوا بعد "أسلو" وأبحروا في عالم الأثير ليستمتعوا بكل ما يقدمه، أخطؤوا التعريف فقد نسوا أن لهم أمهات أرضعنهم القضية وأبدعن في التنشئة على أصل القضية وفي التربية، مرابطات الحرم المقدسي لن تضيع حقوقهن بعد الطرد بعد السحل بعد تمزيق كتبهن المقدسة، من أرحامهن خرج جيل الجبابرة الطفل فيهم أرعب الصهاينة فاحتموا خلف الجدران بكامل بزاتهم المدججة! غرق نتانياهو في مأزق لم يكن إلا من صنع يدٍ بالدماء ملطخة، وأمام ناخبيه خسر مكانته وأضاع الثقة، كل العقوبات الجماعية لن تنفعه فلقد استيقظ المارد من قمقمه، شباب لا ينتمي لحزب أو لجماعة أو ألوية، فيه عنفوان وكرامة وإقدام لا يحيد عن الحق قيد أنملة، ليس لديه ما يخسره بعد أن مزقت أرضه وقضمت قطعة بعد قطعة، بعد أن أحاطوه بالجدران وقالوا له: "ابق ها هنا"! أشغلوا إخوانهم العرب بعواصف ما أسموه ربيعا ثم أطلقوا عليهم كلابهم المسعورة من المستوطنين ليحرقوا الناس والشجر، دمروا المنازل وسرقوا الآثار وزوروا التاريخ والنقش على الحجر، ثم استداروا ودنسوا ساحات الحرم المُقدّسة! إنها عنجهية المتكبر التي ستقودهم بإذن الله إلى المقصلة، إن ما يذوقون اليوم من خوف ورعب وتشتت ليس سوى من مارد واحد من أمتنا، فكيف إذا استيقظ بقية المردة!

كنا نسير بلا وعي وهؤلاء الشبان والشابات أعادوا لنا وعينا، أعادوا القضية الفلسطينية على أنها قضية حق وليست مسألة شفقة ومسكنة، أعادوا القدس الشريف الذي بات يُدنس يوميا إلى واجهة الإعلام بعد أن طغت عليه همجية داعش وأخواتها، بعد أن طغت عليه أخبار ما يحدث في سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن، رأينا الديموقراطية التي يتشدق بها العدو الصهيوني، وكيف أن من يحرق أسرة يأخذ ستة أشهر ومن يرمي حجرا يحكم عليه بعشرين سنة! رأينا كيف حين ينتفض طفل بسكين يطلق عليه الرصاص ويترك على الرصيف لينزف وهو يشتم بأقبح الألفاظ النابية! رأينا كيف أنه مسموح للمستوطنين بأن يحملوا السلاح ليطلقوا الرصاص أولا، ثم إن طاب لهم يقتربون من القتيل ليُسألَ! رأينا كيف يُسحب الطفل من حضن أمه ليُسجن، ورأينا كيف يسحب الحجاب من على رأس الفتاة وحين تعترض، تتهم بمحاولة طعن وبدم بارد تُقتل!

هنالك مقولة تقول إلى أن يتعلم الأسد الكتابة كل القصص ستمجد الصياد، وهؤلاء الشبان والشابات لم يتعلموا الكتابة فقط بل أسكنوا المحبرة في أعماق الأوردة وسيخطون الأمجاد بدمائهم ليسمع العالم ويرى، قولوا "هبة القدس"، "انتفاضة شباب الفيسبوك"، "انتفاضة السكاكين"، "انتفاضة الحسم"، سموها ما شئتم... لن يهم أبناء الحياة أية تسمية، هم الحياة وهم الأفعال الشامخة، فأحلام النصر لا تسقى إلا بدماء الأوردة.