بدأت مرجعية آية الله محسن الحكيم مشتركة مع عدد من المراجع الكبار، وبدأ يُعرف كمرجع تقليد بين مجموعة من البغداديين والنجفيين منذ وفاة أستاذه محمد حسين النائيني، صاحب كتاب "تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة"، مع وجود أبي الحسن الأصفهاني، وبعد وفاة الأخير توسعت دائرة مقلديه، وكان في موازاته الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشَّيخ محمد رضا آل ياسين، وحسين الحمامي، والآغا حسين البروجردي في إيران. وبعد وفاة هؤلاء جميعاً لم يبق سوى آية الله عبدالهادي الشيرازي موازياً، إلا أن برقية التعزية بوفاة البروجردي التي بعث بها شاه إيران، محمد رضا بهلوي إلى آية الله الحكيم حسمت الأمر إلى الاعتراف بمرجعيته رسمياً. وفي كل الأحوال كان عدد كبير من علماء قُم يميلون إلى عبدالهادي. وبوفاة الجميع واعتراف إيران رسمياً ثبتت مرجعيته وظلت له حتى وفاته عام 1970.

تسلسل محمد مهدي الحكيم في مذكراته حول مرجعية والده، سارداً، كشاهد عليها، ما واجهته من ظروف سياسية بداية من العهد الملكي، وانتهاءً بالعهد البعثي الثَّاني وحتى وفاته. ليست الفترة الملكية هي الأهم في مواجهات مرجعية الحكيم إذا استثنينا مقابلته لثلاثي البلاط في منتصف الأربعينيات، الملك فيصل الثَّاني، والوصي عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد، "قتلوا 1958 جميعاً"، وهناك صورة تشير إلى هذا اللقاء، ويظهر فيها الشَّيخ عبدالكريم الجزائري، وعلي بحر العلوم.

إلا أن الفتور خيم على الصلات بين المؤسستين: الدَّولة والمرجعية، عند وفاة المرجع أبي الحسن الأصفهاني عام 1946، حيث لم تؤد الدَّولة واجب العزاء، فسرعان ما حاول الملك تدارك الأمر فأرسل مندوباً عنه في مناسبة الأربعين. ومع ذلك رفض آية الله الحكيم استقبال الملك وهو يزور النَّجف عام 1949، وكذلك بقية المراجع رفضوا الاستقبال، وقد جرت العادة أن يكون الاستقبال بصحن الضريح العلوي، وجرى هذا التقليد منذ أيام المرجع الأكبر محمد حسن الشيرازي. ويروي السَّيد محسن الأمين أنه في سنة 1287، زار ناصر الدِّين شاه العتبات المقدسة في العراق، وكان الوالي على بغداد مدحت باشا الشهير، فلما قصد الشاه كربلاء خرج لاستقباله علماؤها إلى المسيب، فسلم عليهم وهو راكب. ولما ورد النَّجف الأشرف خرج أيضاً لاستقباله علماؤها، فسلم عليهم وهو راكب أيضاً. ثم زاروه بعد دخولها، ولم يخرج الشيرازي لاستقباله، ولم يزره. 


الحكيم وثورة 14 يوليو

أيدت المرجعية ثورة 14 يوليو 1958 بعد يوم أو يومين من اندلاعها، وكان عبدالكريم قاسم حسب حسابه في تعيين شخص له صلات بكربلاء والنَّجف متصرفاً هناك. وقد أذيعت رسائل التأييد من إذاعة بغداد، ثم أذيعت رسائل شكر للعلماء بتوقيع قائد الثورة. وكان شعور الزعيم عبدالكريم قاسم، حسب فؤاد عارف، وهو يخبره برسائل تأييد كربلاء والنَّجف "ما كان منه إلا أن قَبلني وشكرني، وشدَّ على يدي، وذكر لي أن هذا التأييد مهم جداً".

يجزم مهدي الحكيم بأن المواجهة السِّياسية مع نظام عبدالكريم قاسم بدأت كردة فعل، بسبب قضية خطيرة وفاصلة بالنسبة للمدن الدينية، على وجه الخصوص، وهي مسألة حجاب المرأة، حيث جرت الدعوة إلى السفور، براءة من عباءة نوري السعيد، يوم تلفعها ليختفي عن العيون فيها. وحدث أن توفي أحد كوادر منظمة الحزب الشّيوعي العراقي في النَّجف، والذي كما يبدو نظر إليه الحكيم بدونية، عندما سماه ابن الإسكافي، في حادث سيارة، وبأجواء غريبة على المدينة ومجتمعها المغلق أن يكون العزاء مختلطاً، وأن طالبات المدارس أخذن يأتين بعباءات، لكنهن في الواقع كن متبرجات، وكانت هذه الخطوة بمثابة تهيئة الأجواء لقبول المرأة في مجتمع الاختلاط، وكان التركيز على النَّجف.

كان يمكن للمرجعية الدِّينية أن تبقى على الحياد إزاء الثورة، لولا الاندفاع اليساري غير المحسوب. فحسب ما ورد في ما كتب من قبل الأقربين من المرجعية عن حوادث تلك الفترة، أن التفكير بشأن تأسيس "جماعة العلماء" كواجهة لنشاط المرجعية السياسي، من غير تبني فكرة الحزب، كان رداً مباشراً على ذلك الاندفاع، وما حصل من محاولة إحلال المظاهر الشعبية، من مسيرات عارمة، محل المظاهر الدينية.


ذكر محمد مهدي الحكيم: أن تأسيس جماعة العلماء، وتحديد عنوانها، جاء ردة فعل لتهيؤ الشيوعيين لزيارة أعضاء مؤتمر الأدباء العرب، المنعقد ببغداد، إلى النَّجف، بُعيد الثورة، وبذلك ستعطي تصوراً لدى الزوار الأدباء أن النَّجف يسارية الطابع، وذلك بتهيئة أتباع الحزب الشيوعي في التوجه إلى المدينة. وقد عُقد إثر ذلك اجتماع لجماعة من علماء الدين في النَّجف بعد الشعور بخطورة الموقف، وما سينقله الأدباء والكتاب العرب في بلدانهم من دعاية لليسار. وكانت الفكرة مقابلة المرجع الدِّيني محسن الحكيم، ليناشد المسؤولين جعل الصحن الحيدري تحت وصاية المرجع الدِّيني مباشرة.

بعدها كتب آية الله الحكيم رسالة ناشد فيها متصرف كربلاء فؤاد عارف، أن يتدخل في الأمر، وورد في الرسالة عبارة "جماعة علماء النجف"، فأُخذت العبارة عنواناً للجماعة التي تأسست. وإثر ذلك تأسست "جماعة العلماء" كحلقة وصل بين المرجعية والأمة. ثم ظهر بعد ذلك تجمع تحت عنوان "أنصار جماعة العلماء"، وهو الظهير الجماهيري لجماعة العلماء، ومهمته توزيع ما يصدر من منشورات.

من علماء الدين الكبار من اعتبرهم الحكيم متعاطفين مع الشيوعيين، الجماعة التي تحيط بالمرجع حسين الحمامي، وبالتالي الحمامي نفسه، وهو أحد العازفين عن إصدار فتوى تحرم الانتساب إلى الحزب الشيوعي، على غرار ما أصدره محسن الحكيم. وعلى خلاف ما أصدرته مرجعية الحكيم ضد الحزب، كان للإمام محمد حسين كاشف الغطاء رأي منطقي، لا يؤذي أحدا ولا يوظف لافتة لحزب ضد حزب أو جماعة ضد جماعة، مثلما وظفت تلك الفتوى، وحدث تحت ظلها ما حدث، بل كان رأيه أن تحارب الشّيوعية بشعاراتها، لا بالعنف والتكفير ضدها. ذلك عندما طُلب من كاشف الغطاء موقف ضد انتشار الأفكار الشيوعية، من قبيل فتوى مثلاً، وقد زاره لهذا الغرض، على ما يبدو السفير البريطاني في العراق عام 1953.




تجاذبات سياسية


أبرز ما واجه الحكيم في زمن عبدالسلام عارف، هو الموقف من القضية الكردية، حيث عقد مؤتمر حضره ممثل من الأزهر لإسناد الحكومة بالقتال ضد الكرد، على أنهم "جماعة باغية"، ولما طلب منه تأييد ذلك رفض الطلب، ومع أن رسالة أو برقية زورت على لسان الحكيم أشارت إلى تأييده للحرب، إلا أن المرجعية نشرت تكذيباً.

وملخص القول: ليس هناك فتوى بتحريم قتال الكرد، بقدر ما كان موقفاً من تزوير برقية أذاعها التوجيه المعنوي لوزارة الدفاع العراقية، على لسان الحكيم. وبطبيعة الحال هذا ليس بالقليل، إلا أن مفهوم الفتوى كنص شرعي يختلف عن الموقف أو التوضيح. ومع ذلك تعاملت القوى الكردية مع التوضيح كفتوى، وأشاعتها على هذا الأساس، ويبدو لحاجتها إلى مثل هذا الموقف. ومن جانب آخر رفضت المرجعية الوساطة، التي طُلبت منها، بين الحكومة والكُرد، خشية من عدم الاستجابة.

كانت الصِّلات مع حكومة عبدالسلام عارف متدهورة، إلى حدٍّ رفض محسن الحكيم استقبال الرئيس، على أساس أنه طائفي، ولم يهتم بطلبات المرجعية. أكد ذلك العقيد المتقاعد محسن الرُّفيعي، مدير الاستخبارات ومحافظ الكوت الأسبق، عندما كُلف بالتَّوسط لدى الحكيم في موافقته على استقبال الرئيس عارف ومقابلته في النَّجف، بعد أن رفض الحكيم الطلب الذي تقدم به أكثر مِن شخصية، ومنهم مرافق الرئيس، عبدالله مجيد، إلا أنه أصر على الرفض.

على خلاف ما كان عليه الحال مع عبدالسَّلام عارف لم تواجه المرجعية أي موقف حرج مع رئاسة أخيه عبدالرحمن عارف، سوى اعتراضها أثناء لقاء تم بين الرئيس ونجل الحكيم على التدخل المصري في شؤون العراق، وأن الحكيم الابن قال لرئيس الجمهورية عندما استقبله الأخير في القصر الجمهوري ببغداد "نحن لا نعيش الآن في دولة مستقلة، وإنما نحن أُناس تابعون لعبدالنَّاصر، أو نحن جزء منه". وهذا ما كان يحاذر منه عبدالكريم قاسم، والقوى التي لا تريد الوحدة الفورية مع مصر. وهنا نجد تبدلاً في الموقف إزاء مصر وعبدالناصر، بعد أن انتهى ما كان يجمعهما ألا وهو الموقف ضد حكومة عبدالكريم قاسم.


 


مواجهة دولة البعث

أما أعنف مواجهات مرجعية الحكيم السياسية فكانت مع دولة البعث الثانية، والبداية أنه تم اتصال بالمرجعية من قبل البعثيين قبل الانقلاب، والسؤال: ماذا تريدون؟ وبهذا كانت المرجعية تهيأت للحدث، ولديها تصور بأن عبدالرحمن لن يبقى. وكان الموقف لا محاربة ولا مسالمة. وتمت لقاءات بين نجل الحكيم ووكيله في بغداد من جهة، ورئيس النظام الجديد أحمد حسن البكر، من جهة ثانية.

وفي هذه الأثناء، حسب مذكرات الحكيم، طلب صدام حسين المقابلة واشترطها في داره، وقد جرى الرفض بحجة عدم وجود موقع رسمي له، بل كان موقعه حزبياً. ومع ذلك وافق الحكيم الابن على استقبال صدام بداره هو، لكن صدام أصر أن يكون اللقاء في داره، لمقتضيات الأمن، وبعد المحاولات ورفضها قيل: توعد صدام المرجع الحكيم.

وبعدها جاءت زيارة محسن الحكيم الاحتجاجية إلى بغداد، يونيو 1969 واللقاء بعلماء الشيعة، وإعلان الزيارة بما يفهم أنها احتجاجية. وينقل عن مرتضى العسكري، وهو أحد قياديي حزب الدَّعوة آنذاك بأنه حضر لتعبئة جماهيرية تتزامن مع زيارة الحكيم، مِن دون علم الأخير، ترفع شعارات منددة بالسلطة وتدعو إلى إسقاطها، على اعتقاد أن سلطة البعث كانت ضعيفة آنذاك، وليس بمقدورها أن ترد بقوة.

إلا أن المفاجأة كانت بإذاعة بيان اتهام نجل المرجع الحكيم ووكيله في بغداد، محمد مهدي الحكيم بالجاسوسية، مع تعميم أمر إلقاء القبض عليه، كان ذلك في 7 يونيو 1969. يقول الحكيم رداً على مَنْ أشاع بأن الحكومة سهلت أمر هروبه إلى الخارج بالقول "كنت قد حصلت على إجازة للسفر يوم 2 يونيو، والاتهام كان يوم 7 يونيو، فالفاصلة خمسة أيام. ولعلهم كانوا يتوقعون أنني سوف أسافر باعتبار وجود إجازة السفر، وبعدها يعملون هذا العمل".

كانت النتيجة واحدة، وهي أن الحكومة لا تريد التورط في اعتقال وإعدام ابن الحكيم، وما يسببه من تداعيات محلية وإقليمية. فانتهت المواجهات، وتسلل الابن إلى الخارج، ثم ذهب الأب في رحلة علاج إلى لندن، وبعد عودته توفي وأُغلق ملف صراع ساخن بين المرجعية والدَّولة.