هل يمكن أن نستغني عن الموسيقى والطرب؟ إن الحديث عن الموسيقى يشبه الحديث عن الجواهر واللآلئ الثمينة، فالجواهر ليست بأهمية الخبز للإنسان، لكنها قطعا ستبقى أغلى من الخبز، وكذلك الموسيقى بكل تفاصيلها وعوالمها من مقامات وألحان وآلات، وأعظم آلة هي الحنجرة البشرية إذ تترنم بالآهات فترفع الوجدان في ليالي السمر إلى أقصى النجوم، فكيف إذا كان حليفها العود والكمان، فكيف إذا أصبحت أوركسترا كاملة في حفل أوبرالي فاره، إنها شيء لا يدرك عظمته وبهاءه في النفوس من يخاف أن يطلق لأذنيه العنان فتنطلقان في الحياة تستمعان لجمال الأصوات بمختلف أشكالها الطبيعية والمصنوعة من تغريد الطيور إلى دندنة الوتر وربت الأصابع على ظهر الدربكة الفاتنة.

اسمع الموسيقى، لا تخف، لن تسرقك من أخلاقك، بل ستهذبها، الجمال في الحياة يزيدك بهاء، وجماليات الأذن في السماع، وجماليات البصر في النظر، أنصت للسنباطي، فإن لم تستطعه، فابدأ من هناك فلا بأس من (الشيلات) فهي تليق بأذنك الصغيرة التي لا تطيق ألحان الكبار، ستكبر يوما يا ولدي لتعرف (أم كلثوم) وفيروز وميادة ووردة الجزائرية، وكيف ننسى الشحرورة، رحمها الله، ستكبر يوما لتعرف معنى الرمزية العميقة في وفاة (طلال مداح)، رحمه الله، ممسكاً بالعود على مسرح المفتاحة ليكون شهيد الطرب بين جمهوره ومحبيه، بينما غيره شهيد الحزام الناسف بين المصلين الرُكَّع السجود.

لا تبالي بأولئك الذين سيجدون لك أيها الشاب ألف مبرر ومبرر للحزام الناسف تضعه على جسدك بين المصلين، ولن يجدوا لك رخصة في (العود) تحتضنه بين يديك لتشدو بأجمل الألحان، وأعذب الأغاني، فلا تبالي بهم أيها الشاب في سماع الأغاني، استمع للطفي بوشناق، وهو يغني بحنين آسر (أن يتركوا له الوطن وليأخذوا كل المناصب)، لتعرف معنى الأغاني إذ تحوي كل شيء، من أقصى العشق إلى أقصى الوطن، فكيف أفهموك أنها أرض خراب.

سيقولون لك سنحرمك من (حق التجمع) لتكوين فرقتك الموسيقية، لكننا سنتيح لك حق التجمع لتكوين (إخوة لك في الله) ينكرون المنكر الذي تعجز الدولة عنه حسب تزمتهم، سيقنعونك للافتئات على النظام السياسي، وسيحتجون بالنظام السياسي نفسه في منعك من الموسيقى وحق التجمع بآلاتك الوترية من أجل الطرب، سيعملون بالنظام ضد النظام، سيستخدمون النظام لإشاعة الفوضى والخوف في القلوب، ستصبح الأسماء في وجودهم عكس دلالتها، فترى (بدعة) الإلزام بإغلاق المحلات عند الآذان تتحول إلى (شريعة) رغم أن الرسول الكريم والخلفاء الراشدين لم يعرفوها وأقصى ما فيها من دلالة لا تتجاوز يوم الجمعة لصلاة الجمعة، سيصبح النظام وسيلة لإرعاب العائلات وعموم الناس، ونشر رذيلة التحسس والتجسس بين الناس بحجة الإنكار والأمر بالمعروف.

سيقولون لك كلاما كثيرا يفسد عليك مفاهيم الفطرة والحس السليم عن الحق والخير والجمال، وربما تكون مهيأً لهذا إن كنت ممن أدرك المناهج القديمة التي تتكئ على أدبيات (جاهلية القرن العشرين) في النظرة الاجتماعية و(الحاكمية) في النظرة السياسية، فنراك تفسق أباك وتبدع أخاك، وتلعن جارك، وأخيرا تفصل من وظيفتك الحكومية براءة لذمتك من نظام البنوك الذي يجعلك تحمل الضغينة على دولتك، سيخبرونك أن الحق ما يقولونه هم فقط، لتسمع الآيات من أفواههم كأنما نزلت عليهم كما لو كانوا أنبياء، فلا يبقى إلا أن يسقطوها معنى ودلالة على من شاؤوا في غفلة عن علوم القرآن وأصول الفقه، متجاهلين أسباب النزول وتاريخية الدلالة، سيقولون لك إنهم أهل الحديث فإن حاججتهم بعلم الحديث أنكروا عليك المحاجة ما دامت ليست في صفهم، فهم يعيشون عصبية الجاهلية الأولى وإن رأيت على جباههم كركب المعزاء من آثار السجود.

استمع للموسيقى التي لا يقبلون الخلاف فيها، ولكنهم يقبلون الخلاف الفقهي في (زواج المسيار) رغم أن الأولى لا رابط لها بالضرورات الخمس، بينما الثانية أشد حرجا، تجاهل عنتهم وليسعك في الموسيقى الخلاف الذي ينكرونه ما وسعهم في زواج المسيار من خلاف يقرونه، ولينكروا عليك بعض أوقاتك تقضيها برفقة (سواح) لعبدالحليم دون أن تستغل أحدا أو تضر بأحد، ولتنكر عليهم بحثهم الدائم عن امرأة تتخلى عن النفقة من أجل رجل، هذا الفرق بينك وبينهم، إنهم لا يعرفون الحب العميق في الرباط المقدس، لا يعرفون كاظم في (قولي أحبك كي تزيد وسامتي)، لكنهم قطعا يعرفون سعة الخلاف الفقهي فيما يريدون، وضيقه فيما لا يريدون، لكنه القمع باسم الدين عندما يتحول إلى عصاب عام يظهر بتجلياته العارية عبر هؤلاء، فيمارسه بعضهم بدهاء الثعالب، والبعض الآخر يمارسه بصفاقة الحمقى، فترى كليلة ودمنة تتكرر أمامك، إذ يقوم الثعلب بمعاتبة الأحمق، فإياك إياك أن تظن الثعلب من جنس الطيبين، إن رآك سيعيد عليك حكاية الذئب وستكون أنت الحمل، فإن عجز عن الإمساك بك أفلت عليك الحمقى، وما أكثرهم في مضاربه.