التغير والتطور من سمات الأحياء، والثبات والجمود من سمات الأموات؛ وعلى هذا الأساس يتم الفرز بين الأحياء والأموات. الميت ليس بالضرورة، هو من لفظ آخر أنفاسه وتم دفنه تحت الأرض؛ كما أن الحي ليس كذلك، كل من ما زال يتنفس ويدب فوق الأرض. إذاً، فالحياة والموت هما صفتان بيولوجيتان في معناهما الضيق؛ ولكنهما صفتان حياتيتان في معناهما الأوسع. أن يكون الإنسان ميتا أو حيا بيولوجيا فهذه سنة الحياة، أما أن يكون الإنسان حيا بيولوجيا وميتا حياتيا فهذا عكس سنة الحياة؛ وهنا يكمن ما يعرف بالورطة الوجودية، أي ورطة الإنسان مع وجوده الحي المحيط به.

ومن الممكن أن يشتبك الإنسان الميت حياتيا وليس بيولوجيا في ورطة حتى مع من ماتوا بيولوجيا ولو من عشرات القرون. حيث يختلط لديه حاضره بماضيه وتتلاشى لديه القدرة على الفرز بين حاضره، ناهيك عن مستقبله وماضيه البائد. فيهرب من مجابهة واقعه، بإعادة نبش قبور مشاكله البائدة البليدة ويعاود خوض حروبها الغابرة، وفي الحاضر، حتى يتحول إلى كيان يطل من القبور على الوجود الحي، ويتحول إلى مخلوق مرعب لمن هم حوله من الأحياء، حيث هو يتحدث بلغة الأموات، التي ليس بالضرورة يفهمها الأحياء؛ ومن هنا يتحول هو إلى مشروع حصار وإبادة من قبل الآخرين، لما يمثله من خطر مرعب على وجودهم الإنساني، عاجلا أم آجلا.

التلبس بالماضي يبدأ من تبني مجموعة سياسية خطابا ماضويا ثم فرضه على الواقع، في البداية بالقوة، حيث يتحول تلقائيا وبعد الترديد والممارسة إلى دين وعقيدة، يجب أن يتبع، ويحمى وينشر، بل ويقاتل من أجله؛ كجزء من أبجديات الخطاب، وضروريات الإيمان والتمسك به. إذاً، فالخطاب، أي خطاب، يتم تبنيه سياسيا ومن ثم يتحول إلى عقيدة دينية وسلوك اجتماعي، يتكون من مفردات، وهذه المفردات تكون هي مدخلات الخطاب، أما مخرجات الخطاب فبالضرورة هي ما تخرجه مفرداته من نتائج تترجمها على أرض الواقع. نستطيع الحكم على أي خطاب من خلال مخرجاته؛ فإن كانت مخرجاته جيدة، بالضرورة فمدخلاته جيدة ودلالة على سلامته. أما عندما تكون مخرجات الخطاب سيئة فلا يمكن أن تكون مدخلاته إلا سيئة، ودلالة على سوء الخطاب.

الخطاب عادة ما يخرج من بيئة معتنقيه، وهو مصمم على مقاس معطياتهم الاقتصادية وظروفهم الطبيعية والمعيشية؛ ليوفر لهم وسيلة العيش الأنسب حسب معطياتهم المتوافرة. وعلى هذا الأساس فالخطابات ليست جامدة بل حية، تتغير حسب تغير الظروف الاقتصادية والمتغيرات البيئية؛ ليؤسس لوسيلة عيش تناسب المعطيات الجديدة؛ وهنا تكمن الإدارة الذكية للحياة التي تنعكس بدورها على نمو وتقدم المجتمع؛ بل وتسهم في نمو وتقدم المجتمعات القريبة منها والبعيدة، حتى يتحول في بعض الأحيان الخطاب المحلي إلى خطاب إقليمي، ومن الممكن أن يتعداه إلى عالمي ليصبح مؤشر نجاح إدارة الحياة من عدمه.

الخطاب، بشكله الطبيعي، هو مفردات فن إدارة الحياة وتنمية مواردها، ويستند على معطيات الحالة الراهنة لمنتجي الخطاب، اقتصاديا وديموجرافيا وبيئيا. أي أن الخطاب يتمحور حول الخطوط العريضة المثلى لإدارة المجتمع بموارده البشرية والطبيعية؛ لتحسين وضعه الحالي للأفضل والرقي به حضاريا. إذاً، فالخطاب هو شأن حياتي دنيوي بحت، لا شأن للشأن الأخروي به، إلا كهوامش تابعة لبعض الخطوط العريضة للخطاب.

فمثلاً الخطاب الرأسمالي كنظام اقتصادي ذي فلسفة اجتماعية وسياسية، له مفرداته المعبرة عنه التي تتمحور حول الملكية الفردية وحرية السوق وتقليص دور الحكومة في الشأن العام بقدر المستطاع. ومن هنا يتم التركيز على الفردانية وحماية الحرية الشخصية للأفراد بقدر المستطاع، بدون إضرار بالآخر أو بالشأن العام؛ وذلك من أجل تحفيز الفرد على الإنتاج والمنافسة الداخلية، والتي بدورها تدعم المنتج الوطني في مجال المنافسة الدولية، مما يعود بالنفع على المواطنين ويسهل عليهم سبل العيش والرفاهية. ومن هذا المنطلق يتم تركيز الأنظمة والقوانين، وحتى التعليم والإعلام، مثل حرية الأديان والتفكير والتوجه السياسي، لخدمة حرية الفرد التي تنعكس إيجابا على قدراته الإنتاجية.

وكذلك الخطاب الاشتراكي ينطلق كنظام اقتصادي، معتمدا على فلسفة اجتماعية وسياسية، له مفرداته المعبرة عنه والمتمحورة حول الملكية العامة، والتحكم بالسوق، وفسح مجال أوسع للدولة في إدارة الشأن العام، من أجل التوزيع العادل للثروة الوطنية بين المواطنين. وهذا بشكل مختصر ما يمثله كل من الخطاب الرأسمالي والخطاب الاشتراكي. وهذان نموذجان واضحان للخطاب سواء اتفقنا مع أي منهما أم لم نتفق. وعليه فمن الممكن أن يطبق أي من النموذجين في مجتمع إسلامي، ولا يؤثر ذلك على دينه.

إذاً، فالخطاب الذي يطمح لإدارة الحياة العامة للناس يجب أن ينطلق من معطيات اقتصادية وبشرية وبيئية من أجل تنمية الحياة والرقي بها؛ وهو شأن خاص في الحياة، وللحياة، لا غير.

الدين هو علاقة بين المخلوق والخالق، تعبر عنها مجموعة من السلوكيات التي تدل على الخضوع للخالق ذلّاً، ورغبة ورهبة، من أجل الفوز بالنعيم الأخروي الموعود، ومن جهة، يبعث الاطمئنان الدنيوي لدى الفرد من خلال ممارسته الطقوس الدينية، والحالة الروحية التصوفية. أما في الحالة الإسلامية التشريعية للأمور الدنيوية والمتمثلة في العلاقات بين الناس وإدارة الشأن العام لهم، فكانت تشريعات خاصة لتنظيم المجتمع القائم حينها، والتي قيست حسب معطياته الاقتصادية والبشرية والبيئية، أي هي تدخل في جانب الإدارة الاجتماع/ سياسية. وهي في المجمل تنبثق من مبادئ إنسانية متعارف عليها إنسانيا، مثل حفظ الحقوق والدماء والأموال، وما ماثلها، من قيم إنسانية لا اختلاف حولها، من حيث المبدأ بين البشر. وهي كتشريع، غير جامدة، وإنما قابلة للتغيير، حسب الزمان والمكان.

وعلى ذلك فيمكن العزل بين الديني كمعطى طقسي وروحي، خاص بالفرد وشبه ثابت، وبين التشريعات الخاصة بالمجتمع والمنبثقة من معطياته البيئية وظرفه التاريخي. وعليه فلا يمكن أخذ الخطاب الديني، كخطاب سياسي، يمكن إدارة الاقتصاد والسياسة والشأن العام للمجتمع من خلاله، في كل زمان أو مكان. فالدين يجب أن يبقى مقدسا، كخيار شخصي، أما الخطاب فقابل للنقد والطعن فيه، وتغييره حسب الظرف والمكان والزمان؛ أو حتى استبداله بما هو أنسب منه. ويتماشى حقاً مع معطيات الواقع والفترة الزمنية المعاشة.

هنا أرجع للورطة الوجودية التي يواجهها الإنسان العربي الآن؛ من حيث غياب الخطاب الدنيوي الحقيقي عنه؛ وحضور ما يسمى بالخطاب الديني وبشراسة لديه. والنتيجة الحتمية هي ما تعيشه أنت كعربي، من كابوس مرعب، لأكثر من خمس سنوات وأنت تشاهد حروبا، تطحن وتمزق هذا البلد أو ذاك من وطنك العربي، تبيد أهله وتدمر عمرانه، وتسمع بتنظيمات ظلامية إرهابية، هلامية وليست بهلامية، تعبث بالإنسان باسم دينك.

فأخذت تشك بما كنت تحمله من بقايا قيمك العربية والإسلامية، معتقدا بأنها غير جادة أو صامدة. حيث أخذت تتهاوى أمامك كهشيم تذروه الرياح، وتتناثر تحت أقدامك كمخلفات ماضوية نتنة، تخجل حتى من أن تنحني إليها لتلملمها وترفعها ثانية كما كنت ترفعها وتشرف بها، قبل ذلك.