تحدثنا في مقال سابق عن (الطعام ومقصد حفظ النفس في الإسلام) وعرفنا أن أساس الحفظ هو الحماية من التلف قبل وقوعه، كالأخذ بأسباب الصحة والوقاية من الأمراض قبل حدوثها والأوبئة قبل انتشارها. ورأينا كيف أن الإسلام ينظر إلى الطعام كوسيلة لا غاية، وسيلة لبناء جسم الإنسان ونموه وحفظه من العلل والأمراض وتقويته للقيام بدوره الذي خلق من أجله، وتناولنا الغذاء والطعام كعامل من عوامل رعاية مصلحة حفظ الجسد التي هي من باب حفظ النفس، وكيف نظم الشرع هذه الوسيلة لتحقيق الغاية من خلقها من مد الإنسان بأسباب البقاء والقوة والنماء، حيث يقول الله -سبحانه وتعالى-: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا".

إن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدد الكمية والنوعية فيقول صلى الله عليه وسلم: "لقيمات يقمن صلبه"، أما الكمية ففي قوله (لقيمات)، وأما النوعية ففي قوله (يقمن صلبه)، أي يتخير من الطعام النوعية التي تمده بالطاقة، فهناك أغذية ذات قيمة غذائية عالية وأخرى ليست كذلك، ثم يفصل أكثر في الكمية فيقول: "فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ"، وفي هذا إعجاز علمي، فثلث المعدة يطابق تماما حجم هواء التنفس.

والمقارنة بين أقصى حجم للمعدة يمكن أن تصل إليه وهو حوالي اللتر ونصف اللتر وبين الحجم المادي للتنفس الطبيعي للإنسان "Tidal volume" يبلغ حوالي 500 ملليمتر من الهواء، أي بمعنى آخر يتبين أن حجم الهواء الداخل للرئتين يمثل ثلث حجم المعدة، وفي هذا إعجاز نبوي (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [سورة النجم: الآية 4].

وفي دراسة حديثة تبين أن خفض كمية الطعام بنسبة 40% يؤدي إلى إطالة العمر بمقدار 20 عاما، وقد قام بهذه الدراسة باحثون في معهد "صحة جامعة لندن" "UCL Institute of Healthy Ageing".

إن الإفراط في الطعام من أهم عوامل أمراض السمنة التي تؤدي إلى أمراض عديدة وجسيمة ولا يكاد يستثني عضوا أو نسيجا إلا وتؤثر فيه سلبا.

وتتزايد الأدلة العلمية التي تؤكد أن السمنة وزيادة الوزن لهما تأثير سلبي مباشر على الصحة، كارتفاع ضغط الدم وارتفاع نسبة الكولسترول واحتمال الإصابة بمرض السكري وأمراض القلب، وتشحم الكبد، وحصوات المرارة، وروماتيزم المفصل الغضروفي بالركبتين، بل وزيادة نسبة الإصابة ببعض أنواع السرطان.

وتشير الدراسات إلى أن نسبة الإصابة بارتفاع ضغط الدم في البالغين المصابين بالسمنة كانت ثلاثة أضعاف نظرائهم من ذوي الوزن المثالي، ومخاطر الضغط المرتفع لا تخفى على كثير من الناس، فهي تؤدي على المدى البعيد إلى الإصابة بأمراض القلب وتصلب الشرايين، والذبحة الصدرية، وفشل عضلة القلب، وجلطة الدماغ، والفشل الكلوي.. وأكثر من هذا.

وقد وجد كذلك أن زيادة الوزن تؤدي إلى ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، ومخاطر ارتفاع الكوليسترول لا تخفى على كثير من الناس فالدراسات تشير إلى أنها تساعد على حدوث تصلب الشرايين والذبحة الصدرية وغيرها من أمراض الأوعية الدموية.

وقد وجد كذلك أن الزيادة في الوزن أدت إلى زيادة نسبة الإصابة بمرض السكر بمقدار ضعفين إلى أربعين ضعفا، مقارنة بالأشخاص ذوي الوزن المثالي، وهذه الزيادة طردية وتتوقف على مدى زيادة الوزن.

ولا يخفى على كثير من الناس ما يسببه مرض السكر من مضاعفات خطيرة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية المختلفة كالعينين والأطراف، والفشل الكلوي، والأعصاب وغيرها، بل ولا تكاد تستثني عضوا واحدا في الجسم.

وقد وجد أن نسبة الإصابة بسرطان القولون والأمعاء الغليظة والبروستاتا كانت أعلى في الرجال ذوي الوزن المرتفع، مقارنة بنظرائهم من ذوي الوزن المثالي، وقد وجد كذلك أن نسبة الإصابة بسرطان المرارة والرحم والثدي كانت أعلى في النساء ذوات الوزن المرتفع، مقارنة بنظرائهن من ذوات الوزن المثالي.

وخلاصة كل هذه الدراسات أن زيادة الوزن والسمنة من الأمراض الخطيرة التي تزيد من نسبة الوفيات والإصابة بالأمراض القاتلة.

وقد فرض الله على المسلمين الصيام "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" [سورة البقرة: الآية 183]، وقوله تعالى: "وإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون"، ولقد وجد أن للصوم آثارا إيجابية عظيمة على الجسد، فاكتشف العلم الفوائد الفيزيولوجية للصوم بعد زخم كبير من الدراسات العلمية والأبحاث الطبية الدقيقة، فالصيام ظاهرة طبيعية ولها فوائد عديدة، كالتخلص من الوزن الزائد بحرق الدهون الفائضة في الجسم عوضا عن السكر وزيادة استجابة الجسم للإنسولين الطبيعي في الجسم، مما يجعل الجسم أكثر قدرة على التعامل مع النشويات والسكريات في الدم، وكذلك راحة الجهاز الهضمي وإسراع عملية الحرق وتحسين أدائها وخفض نسبة الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وكثير من الأمراض السرطانية.

وكذلك تبين الدراسات أن الصوم يطيل من العمر، وأن معدل الأعمار في بعض المجتمعات والشعوب يزيد نتيجة طبيعة تغذيتهم وكمية الطعام الذي يتناولونه، وكذلك يؤدي الصيام إلى تحسين وظائف الدماغ لأنه يزيد من إنتاج البروتين المسؤول عن إنتاج خلايا عصبية خاصة في الدماغ، ويقوي الجهاز المناعي وهذا ما يحدث في الحيوانات عندما تمرض، فإنها تتوقف عن الطعام لتكرس طاقة الجسم في الدفاع ضد المرض، حيث إن هضم الطعام يستهلك طاقة كبيرة يحتاجها الجسد أثناء المرض لاستخدامها في محاربة ذلك المرض.

إن من عظمة هذا الشرع أنه دين حياة، بل أسمى صور العبادة فيه هو سجود القلب والجوارح في محراب الحياة، فهذا الشرع لا يحيا إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض، أي يصبح الإنسان قرآنا يدب على الأرض، بل إن المعجزة الخالدة هي ما يمكن أن يفعله كلام الله وشرع الله وكتابه في الإنسان إن سمح له أن يفرغ فيه ليخرج منه المعجزة.

كيف استطاع كتاب الله عندما فرغ في إنسان الصحراء البسيط أن يخرج منه معجزة، ويصبح مركز العالم في أقل من عقدين من الزمان في أسرع وأغرب وأعظم طفرة حضارية في تاريخ الإنسان؟

لقد كان هذا عندما اتبعوا منهج وحي السماء وسنة رسول الله للناس في كل جزئية من جزئيات حياتهم، فلم يفصلوا بين الدين والحياة، بل حولوا جميع أعمالهم وحياتهم ومحياهم إلى صور من صور العبادة لله بما فيها الأكل والشرب، فحققوا قوله تعالى "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [سورة الأنعام: الآيتان 162 - 163].