نوقشت الحرية كمصطلح جديد من كثير من التيارات المعاصرة، ونحن في منطقتنا كثيرا ما نفهم الحرية بجانبها السلبي فقط، ولكن ماذا أعني بالحرية المقدسة؟ ولماذا كانت مقدسة؟ وهل تتعارض مع مفاهيم الإسلام أم أن الإسلام يأمر بها؟

هناك شق من الحرية يتحدث عن الإباحية تقريبا وهذا لا نتحدث عنه، وإنما الحديث هنا عن الممارسات والاعتقادات الشخصية المبنية على اجتهاد شرعي، ولا أتحدث هنا عن الآراء التي تصادم النص القطعي بشكل مباشر، وإن كان هناك من يحاول توسيع دائرة القطعيات ليقطع الطريق على الآخرين بألا يتجاوزوا مساحة آرائه، ولكن ليس هذا محور حديثنا.

سأبدأ شرح المفهوم بتساؤل؛ عندما يكون هناك رأيان اجتهاديان ولا يوجد نص قطعي الدلالة وقطعي النقل حسب اشتراطات الأصوليين، ثم يأتي شخص متعصب لأحد الرأيين ويحاول إكراه أصحاب الرأي الآخر -وربما يكفرهم أو يبيح قتلهم- ليتبعوا ويؤمنوا بما يراه هو من أمر اجتهادي، ما تفسير هذه الممارسة من الناحية الشرعية؟

هذه الممارسة في الحقيقة هي تطويع وقمع الناس لتجعل الناس مستسلمين لوسطاء بينهم وفهم كلام الله، فهي إكراه ليتخذوا المتعصبين كوسطاء بينهم وبين فهم كلام الله تعالى، وهذا بلا أدنى شك هو نوع من الشرك والإكراه على اتخاذ الوسطاء في فهم كلام الله، وهو ما كانت تفعله الكنيسة قديما ويمارسه بعض المتحمسين المسلمين اليوم بحسن نية أو سوئها، ولا شك أن مقابلها حرية مقدسة يفرضها مقتضى التوحيد لله تعالى وعدم اتخاذ وسطاء بين الناس وربهم، وأن الجميع أحرار بينهم وبين الله في فهمهم لكلامه وكلام رسوله دون تقديس لأحد على أحد.

تحدث الفقهاء قديما وحديثا عن أن التقليد الفقهي وإكراه الناس عليه ممنوع؛ لأن الأصل في الاتباع هو لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولكن الكثير يتجاهلون هذا ويتركونه كلاما نظريا تقليديا، وهم في الحقيقة يمارسونه بأبشع صوره. ويأخذ البعض في الاسترسال لمحاولة تعزيز مبدأ إكراه الناس على الآراء الاجتهادية بتكرار مبدأ تقديس المشايخ وتعظيمهم، ولا شك أن العلماء محترمون ولكنهم ليسوا أبدا مصادر تشريعية لإلزام الناس بآرائهم طالما المسألة ليس فيها نص قطعي، كما أن الإسلام لا توجد فيه طبقة دينية تلزم الآخرين بآرائها، ولم يحدث هذا في عصر الصحابة نهائيا، ولم يكونوا يدعون أحدهم بالشيخ أو آية الله ونحوها من الأسماء التي توحي بالقداسة.

لدينا كثير من المسائل الاجتهادية التي تكاد تكون محور المعارك في الساحة اليوم، وهي في غالبها تدور على مسائل اجتهادية، بل بعضها لا يعضدها أدلة حقيقية، بل الأدلة على خلافها، ولكن تأتي هنا النفس البشرية ورغبتها في إكراه الآخرين ليتبعوا آراء النفس، وإلباس تلك الرغبة بلباس ديني، والتي تنتهي بتقديس النفس وآرائها، ولو تأملنا أغلب مشاكل الساحة اليوم لوجدناها تصب في خانة الخلاف في مسائل اجتهادية يريد البعض إكراه الآخرين على آرائهم التي توارثوها، ولم تكن عن تبنٍّ حقيقي.

النفس البشرية تكره كل جديد لأنها تشعر بأن القديم يعني لهم مسألة وجود وبقاء الكيان، ولا تقبل أي شيء يعني أن الآباء والأجداد وتراثهم كان على خطأ مثلا، ولذلك كثير من أولئك المتعصبين لو وُلدوا لآباء يعبدون البقر؛ فإن من المؤكد أننا سنراهم اليوم يتعممون العمامات الهندوسية، لأنها باختصار تعني لهم مسألة الوجود والبقاء وسيتعصبون لها، وهذا السبب هو ما يدفع كثيرا من الطوائف والأديان التي تشتمل على كثير من المعتقدات المضحكة والمخجلة أحيانا، ولكنهم يتعصبون لها بسبب أنها تمثل لهم مسألة وجود فقط.

مبدأ الإسلام هو اتباع الحق والبحث عنه مهما كانت النتيجة، ومن يوحّد الله فعلا يجب عليه أن يترك الناس للإله الأحد وهو حسيبهم، لا أن يسيء الأدب مع الله ويعتدي على حقه بتطويع الناس ليتبعوا آراءه هو ومن يحب، فمن أسس التوحيد أن الجميع والجميع حرفيا أمام القرآن والسنة سواء، ولا توجد واسطة بين كتاب الله والناس، وكل إنسان يمكنه أن يفهم كلام الله حسب قناعته هو وليس بفرض قناعات الآخرين ليتحولوا في النهاية إلى وسطاء بين الناس وكتاب الله، وهو ما يدخل في مفهوم الشرك!

سيأتي سؤال هنا؛ هل يعني هذا أن الناس أحرار في تفسير النص الشرعي؟ والجواب أنهم أمام الله مسؤولون بأن يكون فهمهم وتفسيرهم للنص بناء على الأصول الشرعية والعلمية الصحيحة، ويجب على الإنسان أن يتوخى الورع والحذر في ذلك، ولكن في الوقت نفسه وبكل قداسة؛ فليس لأحد من البشر أن يُمارس على الناس حق الوصاية وكأنه مفوّض من الله تعالى عليهم، ويحاسبهم على نياتهم، أو يحاول إلباس نفسه لباس القداسة وأن فهمه هو الحق وغيره الضلال، وهذا العمل بلا شك هو نفس نظرية الكهنوت التي كان الباباوات يمارسونه على الناس في أوروبا، والحديث هنا للأهمية هو محصور في المسائل الاجتهادية التي لم يأت فيها نص قطعي يحسم النزاع.

نقطة مهمة أخرى؛ وهي أن هناك فرقا بين الممارسة الشخصية والتفسير الصحيح للنص؛ فالكلام أعلاه عن الممارسات الشخصية فقط، وليس عن الطريق الصحيح لتفسير النصوص وفهمها، ولا داعي لشرح الفرق بين المبدأين.

أخيرا أقول؛ إن تعزيز قدرات الأجيال بأن يمتلكوا قدرات التحليل الحر والتفكير المستقل هي أكبر ما يمكن أن يقودنا نحو مستقبل مشرق، وليس ما يحاول ممارسته البعض من حب السيطرة على كل تفكير يخرج عن طريقة التفكير التقليدي. الأمم والشعوب لا تنهض أبدا إلا بعقول مواكبة لعصرها، وتسأل وتناقش ولا تنقاد لآراء الأفراد كالقطعان، بل يجب علينا نحن أصحاب نظرية التوحيد والحرية المقدسة بين المسلم وإلهه أن نقود العالم إلى الفكر المتطور والجذاب.