بصرف النظر عن التوصيف الأمثل للشخصيات التي التقى بها خادم الحرمين الشريفين والخلاف الجاري في مدى أهلية عدد منهم لتمثيل الإعلاميين والمثقفين، فإن المهم حقاً الذي لا يمكن لمهتم صرف النظر عنه، تلك الكلمة التي أدلى بها الملك في ذلك المقام والتي فُهِمَت على أنها رسالة لوسائل الإعلام والمنابر الثقافية بأن ما يُنشر ويُبث فيها يجب أن يكون منطلقاً من المبادئ التي قامت عليها الدولة، ومناسباً لمكانتها في الأمة الإسلامية، فقد أشارت الكلمة إلى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وانطلاقه في تأسيس الدولة ووضع لبناتها التنظيمية الأولى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما كان الإعلام بوسائله المتعددة هو الذي يرسم صورة الدولة في أذهان أبنائها وأمام العالم أجمع، توجب عليه أن يكون مطابقاً في تصويره بلادنا لما أراده مؤسسها ورجاله الذين بذلوا من دمائهم وأعمارهم في تكوينها، ومطابقاً لما يريده قادتها وشعبها من بعدهم من أن تظهر بلادهم للعالم على أنها مأرز الإسلام ومحط أنظار المسلمين ومنطلق الدعوة ورمز الفضائل والقيم التي يأمر بها الدين الحنيف.

ولم يكن المؤسس، رحمه الله، في تقديمه دولته الناشئة للعالم أجمع مُوارباً في التصريح بالصورة التي يتأملها لها، بل كان من المشتهر جدا عنه، رحمه الله، أنه كثيراً ما يقول في دعائه: "اللهم إن كنت تعلم أن في عزي عزا للإسلام والمسلمين فأعزني، وإن كان في عزي هوان للإسلام والمسلمين فأعز من في عزه عزا للإسلام والمسلمين".

هكذا كان يقول في دعائه ونحسبه كان صادقا مع الله تعالى حين تضرع إليه بهذه الكلمات، فقد وُلِدت السعودية في زمن خلا من دولة تنادي بالإسلام وتحكم بشريعته، حتى الدولة العثمانية التي تأسست على جمع الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غيرت جلدها واستبدلت الليبرالية بالشريعة حين أجبر حزب الاتحاد والترقي السلطان عبدالحميد على توقيع الدستور، تمهيدا لعزله سنة 1909 وكان هذا الدستور سببا رئيسا في تخلي أكثر رعايا الدولة العثمانية عنها يوم أن كانت في أمس الحاجة إليهم بعد انجرار قدميها إلى منزلق الحرب العظمى سنة 1914 حينها بحث حزب الاتحاد والترقي عن رعايا الدولة وناداهم باسم الإسلام، لكن هذا النداء لم يحقق منفعة تذكر، فإعلان الدستور وحملات التتريك ظلا يذكران الناس كل يوم بأن الإسلام ليس سوى ورقة يشتري الاتحاديون بها دماء شعوبهم ريثما تنتهي الحرب.

إذاًَ لم يبق سوى عبدالعزيز ينادي صادقا بالإسلام حتى إنه لفرط صدقه نسي أو تناسى ما فعل العثمانيون معه ومع آبائه من قبل، فوقف معهم في الحرب العالمية الأولى وقفة قَصَّر عن مجاراتها كل من كان يدعي محبتهم، وذلك حين دفع الإمام إلى قائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا بأربعة عشر ألف جمل معونة على حرب قناة السويس التي شنها العثمانيون على الإنجليز. هذا الصدق كان سببا في إجابة الدعوة وتمام النعمة على عبدالعزيز وأسرته بأن أعز الله بهم الإسلام في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الأمة، فقد كان لهذه الدولة القدح المعلى في تصحيح عقائد المسلمين التي عبثت البدعة والخرافة بها سنين طوالا، وأعادت إلى الإسلام ما تميز به من يسر العقيدة بعد أن جعلتها الخرافة في كثير من بلاد الإسلام أعسر من عقيدة النصارى في المسيح، كما أعادت إلى السلف الصالح مكانتهم في القدوة بعد أن انقسم المسلمون فيهم بين محب لهم ومبغض.

قدَّم الملك عبدالعزيز نفسه للعالم مسلما سلفيا عربيا فخورا بجميع تراثه، لم يشعر بشيء من النقص وهو يقابل زعماء العالم بلباسه التراثي ولهجته الصحراوية، مقدما نفسه لسدنة السياسة العالمية على أنه قادم من أعماق التاريخ بفهم يخصه لما يجب عليه تجاه العالم وتجاه أمته، لا يستوحيه من ثقافة الغرب ولا يتنازل عنه من أجل المستعمر.

يقول رحمه الله: "فالواجب على كل مسلم وعربي، فخور بدينه، معتز بعربيته، ألا يخالف مبادئه الدينية، وما أمر به الله تعالى، بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش، والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه، فالرقي الحقيقي هو بصدق العزيمة، والعلم الصحيح، والسير على الأخلاق الكريمة، والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين، والسمت العربي، والمروءة، وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده، الذين أتوا بأعاظم الأمور باتباعهم أوامر الشريعة التي تحث على عبادة الله وحده، وإخلاص النية في العمل، وأن يعرف حق المعرفة معنى ربه، ومعنى الإسلام وعظمته، وما جاء به نبينا: ذلك البطل الكريم والعظيم من التعاليم القيمة التي تُسعد الإنسان في الدارين، وتُعلمُه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يقوم بأمر عائلته، ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف، فإذا عمل، فقد قام بواجبه، وخدم وطنه وبلاده".

قدم عبدالعزيز نفسه للعالم كما هو، وكما يريد، في زمن تساقط الزعماء من حوله وهم يقدمون أنفسهم كما هو غيرهم، وكما يريد منهم الأقوياء.

يقول رحمه الله: "أنا مسلم عربي، رأست قومي بعد مصاعب طويلة، ولا فخر في ذلك، وتسير الآن ورائي جيوش، وهؤلاء هم جنود التوحيد إخوان من أطاع الله، يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله. ولا يريدون من وراء ذلك إلا إرضاء الباري جل وعلا، وأن هذه القوة هي موقوفة لتأييد الشريعة ونصرة الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها، أعادي من عادى الله ورسوله، وأصالح فيها من لا يعادينا ولا ينالنا بسوء، وإنني وجندي جنود في سبيل جعل كلمه الله هي العليا ودينه هو الظاهر".

هذه العزة في سلوك الملك، رحمه الله، كانت على رأس عوامل عدة أكسبت شعبه مناعة ضد التغريب، ما جعل الشعب السعودي مميزا في كل شيء، بدءا من لباسه وانتهاء بمعتقده، مرورا بسلوكه وعاداته وتكوينه الأسري والاجتماعي، بل ومميزا حتى في عباداته.

وقف الملك عبدالعزيز منذ أعلن رسميا عن دولته عام 1351 وحتى وفاته عام 1373 وراء الأنظمة المؤسسة لهذه الدولة ليجعل منها حصنا للإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في حين كان قبل نشوئها يشكو مرارة الغربة، فلا دار ولا قرار حتى مكّن الله لهذا القائد فجعل من الخليج والبحر خندقين يعيش بينهما الإسلام شرعة ومنهاجا.

إذاً فقد تأسست المملكة العربية السعودية على أساس أنها دولة إسلامية، هذا ما يقوله التاريخ، بل هو ما يقوله جميع أبناء الملك عبدالعزيز الذين تولوا الملك من بعده، ابتداء من الملك سعود وحتى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان. فالدولة تحكم بكتاب الله وسنة رسوله وفق المنهج السلفي الذي أكد عليه الملك عبدالعزيز في أكثر من مناسبة ومن ذلك قوله: "أنا أدعو لدين الإسلام، ولنشره بين الأقوام، وأنا داعية لعقيدة السلف الصالح وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".

ومن أجمل ما قرأت للملك الراحل، يرحمه الله، هذه الكلمة التي أختم بها: "أنا ترعرعت في البادية.. فلا أعرف أصول الكلام وتزويقه.. ولكن أعرف الحقيقة عارية من كل تزويق.. إن فخرنا وعزنا بالإسلام".