الأسبوع الماضي سنحت لي الفرصة للمشاركة في نشاط طلابي في جامعة فلوريدا ستيت للتضامن السلمي مع الفلسطينيين ضد اعتداءات الحكومة الإسرائيلية. كان النشاط يرتكز بشكل أساسي على مقاطعة المنتجات التي تنتجها شركات قائمة في المستوطنات. هذا النشاط سلوك طبيعي في غالب الجامعات الأميركية مع اختلاف القضايا والتوجهات، لكن ما لفت انتباهي هو أن المشرف على النشاط هو عضو في جمعية طلاب من أجل العدالة في فلسطين SJP Aaron Ellis، وهو شاب يهودي مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية. هذا الشاب مثال على الفكرة الأساسية "بين منطق العدالة ومنطق الجماعة". باختصار هذا الشاب كانت أمامه قضية أحد أطرافها يشاركه الديانة وربما الروابط العرقية والثقافية، ولكن انحيازه كان لمنطق العدالة، واختار التضامن مع الطرف المظلوم. نلاحظ أن هذا المنطق "الانحياز للعدالة" هو الموقف الذي نبحث عنه عند الطرف الآخر في الصراعات التي نعيشها، لكنه يصعب علينا تقبله إذا كان من الطرف الذي ننتمي له. بمعنى أن السعودي الذي يفكر في قضايا المنطقة وموقف إيران منها يبحث عن الإيراني أو الإيرانية القادرين على النظر للأمور بمنظار العدالة وليس فقط من منظور الانحياز للجماعة على كل حال. الإيراني سيبحث عن السعودي الذي يفكر بذات العقلية كذلك. المشكلة تكمن حين يتبنى فرد من أفراد الجماعة موقفا يخالفها من منظوره للعدالة؛ فإن المواقف غالبا لا تحترم له هذا الخيار وتحاول حرف موقفه من كونه اجتهادا ضمن تصوراته للعدالة إلى خيانة وغدر وطعن للجماعة من الخلف. نعلم بالتأكيد أن هذه الحجج تمثل أسلوبا متعارفا عليه للتصفيات الداخلية. السيناريو المعتاد أن يخلق الدكتاتور حربا مع أطراف خارجية ويستغلها لتصفية الخصوم في الداخل باسم العمالة للعدو.

الحديث أعلاه مدخل مناسب لتوضيح بعض المفاهيم الأساسية بين منطق العدالة ومنطق الجماعة. بالنسبة للعنوان تساءل البعض واعترض آخرون على العلاقة بين "الجماعة" و"العدالة". يفترض أن يقابل منطق الفرد منطق الجماعة بدلا من منطق العدالة. هذا صحيح لو كان موضوع النقاش هو مصدر الأفكار والأحكام. بمعنى أن هناك من يقرر بناء على ما تراه الجماعة وآخر يقرر بناء ما يراه كفرد. الاهتمام كان المنطق الذي يحكم الموقف. بمعنى الانحياز الأولي والموقف الأخلاقي من القضايا والصراعات. هل الانحياز للجماعة أم للحق؟ هذا لا علاقة له ضروري بالفردانية والجمعانية. بمعنى أن الفرداني قد يتخذ قرار الانحياز في قضية معينة لجماعته بغض النظر عن معايير العدالة والعكس صحيح. بمعنى أن المقلد لجماعة معينة قد يتبنى معاييرها الأخلاقية التي تعطي الأولوية للانحياز للحق على الانحياز للجماعة. التقسيمة الأساسية للعنوان هي "بين منطق الأنانية ومنطق العدالة". المنطق الأناني الفردي كان موضوع سلسلة سابقة من المقالات، منها مقال "الأنانية والعدالة". من ضمن صور الأنانية هو ما أسميته "الأنانية الجماعية". إذن التقسيم هنا تقسيم مرتبط بالمنطق الأخلاقي للإنسان وليس بمصدر هذا الحكم سواء كان لفرد أو جماعة.

القضية الأخرى متعلقة بكون المعيار الذي أطرحه هنا عاليا جدا وربما غير واقعي. القضايا المحيطة بنا معقدة ومن الصعب على كل منا أن يقرر ما هو الحق وما هو الباطل في القضايا التي نعايشها كل يوم. هذه الصورة صحيحة. القضايا فعلا معقدة وفي كثير من الأحيان المشاهد فيها ضبابية. لكن ما أطرحه هنا لا يتعارض مع كل هذا. في البداية ليس من المطلوب من كل فرد أن يتخذ موقفا من القضايا المحيطة. لكنه لو اتخذ موقفا أو اضطرته الظروف لاتخاذ موقف فهو على الأقل بين خيارين واقعيين: الأول أن يدرس القضية ويتخذ فيها موقفا مع ما يراه حقا وعدلا. من المهم هنا التذكير أن هذا لا يعني أن هذا الفرد على صواب دائما. قد يجتهد ويخطئ، لكن اجتهاده هذا يعني أنه قد لبى الشرط الأخلاقي بالانحياز للحق والعدل لا سواهما. الخيار الثاني أن يحيل حل القضية إلى ما يراه إجراء عادلا. كأن يكون موقفه إحالة القضية إلى محكمة يرضاها أطراف القضية. هذه الإحالة تلبي الشرط الأخلاقي دون أن تتطلب من الفرد بالضرورة اتخاذ قرار ذاتي على من هو على حق ومن هو على باطل. بهذا المعنى فإن منطق العدالة منطق واقعي ومتناسب مع محدودية قدرة الأفراد على حسم القضايا الشائكة. البديل لمنطق العدالة هو منطق الانحيازات الذاتية والجماعية التي تحيل التجارب البشرية إلى سلسلة من صراعات القوى وتقضي على احتمالات التعاون والعمل المشترك والرحمة والضيافة بين البشر.

منطق العدالة هو المنطق الذي نتمنى وجوده عند جيراننا وزملائنا في العمل ورؤسائنا المباشرين وغير المباشرين وجميع الفاعلين الاجتماعيين. لا توجد صورة عامة محبطة مثل قاضٍ ينحاز لجماعته العرقية أو المذهبية أو الثقافية ضد من قدموا إليه بحثا عن العدالة. الذي ننساه كثيرا وبسهولة أننا لا نتحسس من الانحيازات الاجتماعية ضد العدالة إذا كانت توافق رغباتنا وتصف في مصاف جماعاتنا. بمعنى أن نسيان الآخر يسهل كثيرا في حمى الصراعات. لكن لا ننسى أننا نحن الآخر في العين المقابلة، وأن الأمل كل الأمل في عين لا تنغلق على ذاتها وترى الآخر بعين الاعتبار كذلك. هذه القدرة موجودة بيننا عند النظر فقط للقلوب الرحيمة والمضيافة والمتسامحة والمعطاءة التي تحيط بنا.