قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، هكذا يحكم القرآن على الكثرة والنوعية.

إن كتاب دارون عن الأنواع، ومقدمة ابن خلدون، أو رأس المال لكارل ماركس، أو حول النظامين لغاليلو، أو تفسير الأحلام لفرويد، أو حتى في الكتاب الجديد (ألمانيا تلغي نفسها) للدعي النازي الجديد تيلو سارازين، ولدت كاملة دفعة واحدة على نحو نظري، ولم يكن القرآن يتنزل هكذا بل بظروف نفسيه معينة في إجابات عن حالات ووقائع. تأمل مثلا قصة الإفك من سورة النور، أو سورة آل عمران ومعركة أحد وكيف همت طائفتان أن تفشلا والله وليهما، أو منكم من يريد الدنيا، أو معركة الخندق وكيف جاء العدو من فوقكم وأسفل منكم وبلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا.

أو ظروف اليأس من كل مكان وسورة يوسف تتنزل تقول حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا.

فكلها آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجادل في آيات الله إلا كل ختال كفور، ولذا فهو لا يفتح أسراره إلا لمن يدخل هذه الأجواء النفسية، فيستوعب حقيقة الكلمات مذاقا شهيا للمتوسمين. ولذا فليست العبرة أن ينتج الإنسان مائة كتاب أو عشرة كتب، بل ما هي الأطروحة التي تقدم بها، وأنأ شخصيا أصنف مثلا المفكر جودت سعيد مثل مؤلفي الأوبرات والسيمفونيات، فهو ينتج الفكر في سيمفونيات محددة ربما وصلت للعشرين، فيكرر بعضها حتى ينتج الشيء الجديد، وحين أجتمع به أقول بدأ بالسيمفونية الثالثة ثم 14 ث 11 ثم سبعة وهكذا، والرجل عنده قدرة على أن يتحدث على نحو متواصل عشر ساعات بدون أن يشعر بالتعب، وموهبة أن تتكلم أصعب من أن تكتب يتحلى بها البعض فإن تحدثوا أصقعوا، وهناك من الناس من لا يتكلم كثيرا ولكنه ينتج غزيرا على نحو صموت. وهذه الموهبة تنقل أيضا عن جمال الدين الأفغاني أنه كان يختلف عن محمد عبده، الذي كان متحدثا بارعا، ولكنه لم يكتب الكثير وأشهر إنتاجه هو العروة الوثقى التي أخرجوها من باريس ولم يطبع منها سوى 17 عددا على ما أذكر.

مع ذلك قد ينتج فيلسوف عظيم مائة كتاب أو قريب من ذلك، والعبرة هي في المحتوى، فقد ترك خلفه عبدالرحمن بدوي شيئا من هذا وكذلك برتراند راسل، ولكن جون لوك أنتج ثلاثة كتب في وقت متقارب وفي الستينات من عمره رفعته لمكانة كبرى.

وكذلك فعل إيمانويل كانط مع كتابيه (نقد العقل الخالص) (ونقد العقل العملي) فهما من ذخائر الفكر الإنساني.

أما شوبنهاور فلم يكتب سوى كتاب واحد مهم عن الكون إرادة وفكرة ولم ينتشر وعرض الناشر أن يبيعه في النهاية على شكل رزم ورقية؟ أما غاليلو فقد هز العالم في كتاب هو بحث في النظامين فخرت قبة السماء على رأس البابا والكرادلة، وترك سبينوزا خلفه أربع كتب قال عنها ديورانت كانت أفضل من كل فتوحات نابليون والأسكندر. وترك دارون كتابين عن (أصل الأنواع) و(أصل الإنسان) هزت العالم ومازالت، وترك كارل ماركس كتابه في (رأس المال) الذي هز فيه رأس المال العالمي سمك القرش وأقض مضجعه، ولم يكن خطيرا لولا نشوء الشيوعية ودولها وحروبها ومصائبها من خلف الفكر كما حصل مع النازي وكتابه كفاحي.

أو الكتاب الأحمر وماوتسي دونج أو صاحبنا من الشرق وكتابه الأخضر الذي زعم أن فيه حلولا لكل مشاكل الجنس البشري في الوقت الذي يتخبط فيه صاحبه في مشكلة خلف أخرى بدون حلول، أو الكتاب الأسود لستيفان كورتوا عن مقتل 200 مليون من الأنام من وراء طاعون الشيوعية، ولا تختلف عنها الفاشية والبعثية العبثية وأشكالها ونظائرها.

ولذا فليس العبرة أن يكتب الإنسان الكثير بل أن يقرأ الكثير حتى يفيض، وينقل شلش عن ديورانت في كتابه قصص من التاريخ أنه لم يكن يكتب مجلدا واحدا من مجلداته الـ 42 في قصة الحضارة قبل أن يقرأ خمسة آلاف كتاب، مع رحلات علمية للثقافة التي سيكتب عنها. ويأتيني الكثير يطلبون نصحي أنهم يريدون نشر مقالاتهم في مواقع، وجوابي يفجعهم حين أنقل لهم هذه الأرقام، ولكنها الحقيقة الموجعة أنه لم تكن الحكمة لتجرى على لسان أحد ما لم يخلص لله أربعين سنة ويقرأ أربعة آلاف كتاب.