كلمة الحضارة في اللغة مشتقة من "الحضر" وهم سكان المراكز العمرانية، وبذلك فالحضارة في اللغة تعني الإقامة في الحضر وهي ضد البداوة، فيقال: فلان من أهل البادية، وفلان مدني من أهل الحضر.

أما في الاصطلاح، فقد اختلف العلماء والباحثون حول تفسير معنى الحضارة، فانقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: ينظر إلى الحضارة باعتبارها مجموعة من المظاهر الفكرية التي تسود المجتمع ويتزعم هذا الرأي مجموعة من الألمان مثل (راتناو وثوماس وكيسرلنج).

وعند تحليل هذا الرأي نجد أصحاب هذا التعريف يميلون إلى استبعاد ما يتعلق بالصناعات والفنون والعلوم التطبيقية والرياضيات من مفهوم الحضارة، ويحصرون مفهوم الحضارة على الجانب الفكري فقط، أي بمعنى الثقافة التي تعرف اصطلاحياً بأنها الرقي في الأفكار النظرية والعقلية فقط، وهذا يشمل الرقي في القانون والتاريخ والسياسة والأخلاق والسلوكيات وسائر الأمور النظرية والفكرية (المعنوية).

أما الفريق الثاني: فإنه يعرف الحضارة بأنها ما توصل إليه مجتمع من المجتمعات في الفنون والعلوم والعمران، ومن أصحاب هذا الرأي (ماكيفر والألماني شفيستر وإدوارد تايلر)، فيفسر ماكيفر الحضارة بأنها (ما نحن وليس ما نستعمل، وهي تتمثل في الفنون والآداب والديانات والأخلاقيات).

ويقول أربرت شفيستر: إن الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير.

وعند تحليل رأي أصحاب المذهب الثاني نجد أنهم يقصدون بالحضارة: الإنتاج المادي فقط لأمة ما، وبذلك فتعريف الحضارة هنا أقرب إلى تعريف المدنية التي تعرف بأنها الرقي في العلوم المدنية التجريبية (المادية) كالطب والهندسة والكيمياء والصناعة والزراعة.. وغيرها من الأمور المعنوية التطبيقية. ونلاحظ أن كلا التعريفين اقتصر على جانب واحد فقط من الجوانب ولم تتم الإحاطة بكلا الجانبين المادي والمعنوي.

أما ابن خلدون فيقول في تعريف الحضارة: "إن الحضارة هي نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار ويضفي على حياة أصحابه فنوناً منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة وإدارة شؤون الحياة والحكم وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية".

ويتبين من تعريف ابن خلدون أن نمط الحياة المستقر هو الذي ينشئ القرى والأمصار: ومعنى ذلك أن انتساب القرى والأمصار هو نتيجة للحضارة وليس أصلاً لها.

بمعنى آخر فإن الرقي الفكري يسبق الرقي المادي.

ويعرفها ويل ديورانت (William J. Durant) صاحب موسوعة قصة الحضارة بقوله (الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: المواد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم).

أما مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي فهو نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ فيقول (الحضارة يجب أن تحدد من وجهة نظر وظيفية: فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه.

وقد اتبع المفكر الكبير مالك بن نبي المنهج التحليلي، فحلل الحضارة إلى عناصرها الأولية التي اعتبرها الرأسمال الأولي، وصاغها بخلفيته الهندسية إلى معادلة رياضية (ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت).

وأتبع هذا المنهج بالمنهج التركيبي.. واعتبر الحضارة بناءً والعناصر الثلاثة تبقى ساكنة ما لم تتدخل ما أسماها بالفكرة المركبة أو (مركب الحضارة). (وهو العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض).

ويبين المفكر مالك بن نبي أن هذا المركب موجود فعلاً في الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ. فيقول (فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ليكون للناس شرعة ومنهاجاً، أو هي على الأقل - تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية أو بعيداً عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته ويتفاعل معها).

ويسوق الأمثلة التي تؤكد أن هذا ينطبق على باقي الحضارات فيقول (لا يختلف تطور الحضارة المسيحية عن تطور الحضارة الإسلامية، فهما ينطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص وتوجهه نحو غايات سامية). ويستشهد مالك بن نبي على ذلك بقول فيلسوف التاريخ الألماني هرمان دي كيسرلنج (إن الروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية).

ويقول مالك بن نبي (فالحضارة لا تنبعث كما هو ملاحظ إلا بالعقيدة الدينية وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها).

ويقول (وجملة القول إن الوسيلة للحضارة متوافرة ما دامت هناك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، الوقت).

وبذلك فإنه يؤكد بأن مشكلة الحضارة تتحلل إلى ثلاثة مشاكل أولية: مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت.

(ويشير مالك بن نبي إلى أهمية إدراك أن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد ذاتها: وأنه من السخف والسخرية حقاً أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها).

ويسلط الضوء على الحقيقة المؤلمة في عالمنا الإسلامي بقوله (إن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة).

ويرى مالك بن نبي أن الحضارة تولد مرتين، الأولى: تكون ميلاد الفكرة الدينية. والثانية: تسجيل هذه الفكرة في الأنفس أي دخولها في أحداث التاريخ.

وفي مقال قادم إن شاء الله سنتحدث عن أهم عناصر الحضارة في معادلة مالك بن نبي الحضارية، ألا وهو الإنسان.