أكبر مأزق ممكن أن يقع فيه المثقف العربي، هو دخوله القسري في نفق التناقضات والتحولات السياسية المُظلم، إذ يُصبح بين خيارين سيئين للغاية:
إما الانسياق لمتطلبات السياسة التي ربما تتناقض مع رؤاه وأطروحاته، وبالتالي يظهر في ثوب الكاذب والمُضلل، وهو ثوب بالتأكيد لا يحبذ ارتداءه. وإما أن تكون السياسة الراهنة موافقة لرؤاه وما يطرح، فتحل محلها سُلطة أخرى، مصادمة ومعاكسة لتوجهه، فيكون موقفه حرجا للغاية، هذا طبعا، غير المتلونين مع كل تيار سياسي.
هذا الكلام الثقيل الدمّ الذي بدأت به، أقوله وأنا أتذكر وأتأمل مندهشا، في تحولات واحد من أهم وأبرز مفكرينا العرب في العصر الحديث، وهو أدونيس الذي عُرف بأطروحات وكُتب، ومحاضرات وندوات، كلها تنادي بحرية الفكر، وتناهض القمع، على مدى سنوات طوال، كان فيها أدونيس، الأكثر تنظيرا، حول قضايا الفكر العربي، وكان فيها المفكر العربي الأبرز، ولكنه في بدايات الثورة الشعبية السورية، كان مصادما في رؤيته للثورة السورية، وبقية ثورات الربيع العربي، وأنها ثورات غير حقيقية، ومفرغة المضامين، محابيا بذلك نظام القمع السياسي في دمشق.
الآن، عشرات المفكرين والمثقفين العرب الكبار، نرى تناقضاتهم الفكرية والسياسية ليل نهار، في كتاباتهم، وتغريداتهم، بل وحتى في ممارساتهم السلوكية، ومواقفهم، ونحن من كنا نتتبع كتاباتهم التنظيرية، تجاه الفكر والحياة، ونتسابق إلى كتبهم، ونؤمن بما يؤمنون به، قبل أن نُحوّلهم نحن -وقبل أن يحولوا أنفسهم- إلى أصنام ثقافية وفكرية، ما لبثت التغيرات الواقعية المتسارعة، أن أسقطتها، صنما صنما، ونظرية نظرية، وزنقة زنقة.
بون كبير وشاسع بين مثقفينا، على الورق، وعلى أرصفة الواقع ومواقفه.