تكفي طلة من نوافذ الطائرات التي تمر بنا فوق أجزاء صحراوية غالية من الوطن، والتي لا ترى فيها أي مقومات الحياة سوى أنها صحراء جرداء، لا مساكن ولا أشجار ولا بشر، لتجد مساحات هائلة من المزارع الحديثة على شكل دوائر استنبتت فيها المزارع بعد حفر مئات الآبار الجوفية التي تم استنزافها لتتبخر في صحراء حارة وقاحلة، والمردود قمح ومنتجات زراعية تبلغ تكلفتها أضعاف المستورد، بغية تشجيع الزراعة الوطنية في غير مكانها الذي خلقه الله لها.

لهذا سوف أبدأ بمراجعة سياسة الزراعة وفي مقدمتها القرض الزراعي الذي تسبب في قتل الزراعة في المناطق الزراعية التي كانت ترفد الدولة في بداية تاريخها بالحبوب المختلفة، قبل أن يدخل الأرز والقمح المستورد منازلنا، حين كان القمح والعدس والذرة والشعير وغيرها من المحاصيل الزراعية هي مصدر من مصادر الاقتصاد الوطني والأسري في سلسلة جبال السراوات وتهامتها. هذه المنطقة تواجه أبشع الممارسات من قبل سكانها الذين ركنوا إلى الراحة والدعة بعد أن كانت مزارعهم ومواشيهم تعد من أهم الموارد المحلية والوطنية، بل إن زكاتها كانت تفيض حتى تصل إلى إسطنبول في زمن العثمانيين. لقد عشت بداية حياتي ضمن المزارعين من أبناء تلك المنطقة، وكنا نحفر الآبار بأيدينا لنسقي المزارع التي تعتمد على الري، بينما معظم مزارعنا تعتمد على الأمطار الموسمية التي لم تكن تنقطع في تلك الجبال والسهول. ولن أنسى كيف كنا نخزن الحبوب في الممرات داخل القرى من فائض الحبوب التي تبقى في أماكنها حتى يحول عليها الحول، وبعضها قد يتعرض للرطوبة، وبعضها يصاب ببعض الآفات التي تصيب الحبوب، ثم تعطى بعد ذلك للمواشي والدواب. لقد كان أهل تلك الجبال والسهول يعدون الأراضي والمزارع مثل العرض، ولهذا لا تباع للأجنبي حتى من القرى المجاورة، ومن يعتدي عليها يناله أشد العقاب، ولا تزال القصص والروايات عن الدفاع عن الأراضي وحمايتها يتوارثها بعض الغيورين على تلك المزارع والأراضي التي سطا عليها الناس في ظل جهلهم بالزراعة وأهميتها ومكانتها. وقد أسهم في هذه الأزمة التي تعد هما وطنيا واجتماعيا، تفكك القيم التي كانت تحمي تلك المزارع والأراضي من جميع المعتدين عليها من الداخل والخارج، حتى من بني جلدتهم. واليوم تشهد آلاف القرى والمزارع والغابات تجاهلا كبيرا من أهلها، ومن مؤسسات الدولة المعنية، وهي في طريقها إلى الزوال بعد أن هجرها أهلها وحلت الأنظمة التي لا تطبق محل الأعراف القبلية التي كانت تحمي الإنسان والمكان فلا يعتدى عليها من أحد، ومن يفعل ذلك تطبق عليه الأنظمة القبلية القاسية. كم هو محزن أن ترى مئات المدرجات الزراعية تتحول إلى مخططات سكنية نتيجة أنظمة البناء والعمران التي أفسدت الطبيعة وسمحت للطامعين بالاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة. نعم ألوم وأعتب على أبناء هذه المناطق التي سيسجل التاريخ أن الزراعة والمواشي والمساحات الخضراء والقرى تم الاعتداء عليها في عصرهم، وأنهم من أسهم في تدميرها وسهل الاعتداء عليها نتيجة الجهل وسهولة الكسب من الوظائف وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الإرث الكبير من القرى والمزارع والمواشي والمساحات الخضراء. ثم أعتب على بعض من يتسنم المسؤولية في الوزارات والإدارات التي تمارس أعمالها على هذه المنطقة الجغرافية دون أن تضع لها أنظمة وقوانين تحميها من عبث العابثين من أبنائها ومن غيرهم من سماسرة العقارات والمخططات. لقد كان أهل تلك الجبال والسهول يبنون بيوتهم من طوابق متكررة ويعيشون متجاورين مع بعضهم في مكان واحد حتى لا تتعرض الأرض للسطو والاعتداء، حين كانت الزراعة هي مصدر الدخل الرئيسي عند أهلها. يحدث ذلك نتيجة خطأ جسيم في التخطيط الزراعي منذ أن تأسس البنك الزراعي الذي وزع القروض الزراعية حسب المناطق ليقلب المعادلة الطبيعية ويحول الصحراء إلى مناطق زراعية حتى استنفد المياه الجوفية في الصحراء التي راهن عليها خبراء الزراعة العابرون والعابثون في بلادنا، والذين لم تكن لديهم رؤية كافية بالمساحة الوطنية فتصحرت الجبال الخضراء وبارت المزارع التي عاشت آلاف السنين وهي تمد مكة والحجاج بالحبوب والمنتجات الزراعية.

وسوف يكتب التاريخ أن آلاف المزارع في جبال السروات وتهامتها غرب وجنوب المملكة العربية السعودية تحولت إلى مخططات خاصة سطا عليها لصوص الأراضي من داخل المنطقة ومن خارجها، وساعدهم على ذلك ضعف الضمير والطمع والأنانية وغياب السياسة الزراعية الصارمة التي تراعي خصوصية المناطق وطبيعتها وتحافظ عليها. ولهذا لو كنت وزيرا للزراعة؛ ما ترددت في وضع استراتيجية وطنية للزراعة تحول دولتنا من مستورد للمحاصيل الزراعية إلى مصدر لها، بعد أن أستعيد آلاف المزارع التي حولت إلى أراض سكنية أو مخططات بشهادات الزور من عصابات الأراضي. وسوف أفتح آلاف الوظائف للشباب في مجال الزراعة ضمن خطة عامة تتكامل فيها وزارة الزراعة مع الوزارات الأخرى وخاصة التجارة والمالية والبلديات والعمل. وسوف أسس معاهد زراعية متخصصة في تقنيات الزراعة وفي تنميتها وتسويقها، بالإضافة إلى مكاتب استشارية وإرشادية لخدمة المزارعين، مع إنشاء المصانع الزراعية بأيد وطنية في تلك المناطق الجنوبية الغربية. وسوف أعيد الزراعة إلى المدرجات الخضراء في المرتفعات وأستثمر في الأراضي الزراعية ذات المساحات الشاسعة في جازان وفي نجران وبيشة، والتي أراهن على أنها قادرة على تحويل التنمية الزراعية في المملكة إلى مصدر من مصادر الدخل الوطني المهمة، حتى تعزز الاكتفاء الذاتي وتقطع دابر المتلاعبين بالأراضي والمزارع، وتعيد المزارعين إلى مزارعهم من دون عمالة خارجية.