لست أنكر أن للجدل فوائد، وأنه يثير دفائن العقول، ويلفت الانتباه إلى أشياء ربما يكون العقل عنها في غفلة وعماية. ولا أنكر أن للمناظرات والجدل أثرهما فيّ أنا شخصيا منذ أن كان للمنتديات الحوارية على الإنترنت سحرها وحضورها، ومنذ كانت تجتذب الكثيرين في طلعتها الأولى فيكتب من شاء ما شاء، وبهذا انفتحت أبواب الأسئلة، وأثيرت مسائل كانت -عندي- خارج المفكّر فيه.

ربما كانت هذه هي الفائدة الوحيدة التي أفدتها -أنا شخصيا- من تلك المناظرات وذلك الجدل، فكان يكفيني أن أعود في بعض المسائل من اليقين المطلق إلى الشك الذي يجعلني أراجع نفسي في بعض ما كان لديّ من المسلمات؛ أأستمر آخذاً به أم أحول عنه؟

لكن تلك المناظرات بالنسبة إلي لم تكن إلا محركا للبحث والنظر، لا مصدرا موثوقا للمعلومات؛ ذاك أن المشاركين فيها من مرجعيات فكرية مختلفة، ولم أكن آخذ ما يقال فيها على جهة التسليم البتّة، ولكن أبحث بنفسي فأنظر وأستدل.

هل تجربتي الشخصية تعم جميع الناس؟ الواقع أني مع التجربة في أكثر من موقع ومجال وجدت أن الناس –في العموم– قد حزموا أمتعتهم، وليس دورهم -غالبا- في متابعة المناظرات إلا دور المشجّع الذي يهتف للاعبيه، ويرجو لهم النصر والفوز على الخصوم، فلو كان هناك مناظرة مثلاً بين شيخ يقول بجواز كشف وجه المرأة، وشيخ آخر يوجب تغطية وجهها؛ فالمتابعون -في الغالب- سيصفق كل منهم لوجهة النظر التي يتبناها مسبقا، سيفتح أذنيه ويولي اهتمامه بمن يوافقه الرأي، وسيصاب بالصمم عن سماع حجج خصمه مهما كانت قوتها واتساقها المنطقي، والعكس بالعكس.

من مشكلات المناظرات أن الداخل فيها -في الغالب- يكون همه الأكبر "إفحام خصمه" أمام الجمهور، وإظهار جهله وفهاهته، وبيان ضلاله وغبائه، وهدم دعاواه العريضة؛ ذاك الضال الجاهل، وبيان قدره ومستواه العلمي؛ ذاك المدّعي التافه للعلم والمعرفة، وسيهتم المجادل كثيرا بصورته أمام الناس، سيحسب ألف حساب لهذا، وسيرفض كل الرفض أن يبدو أمامهم عييّا أو جاهلا، وسيستخدم كل الأساليب التي تظهره أعلم وأفصح، وأكثر إقناعا وأقوى حجة -لا سيما أمام الأتباع-.

وليس هذا الداء في المناظرات حديثا بل هو قديم منذ كانت المناظرات والجدل، أفلا تقرأ كثيرا نتفا عن حوارات حقيقية أو وهمية قامت بين الخصوم؟ أفلم تقرأ أن فلانا قال كذا، فردّ عليه فلان فكأنما ألقمه حجرا (يا للهول)؟! وأن فلانا قال كذا فأجابه علان فلم يحر جوابا؟

فإذا قرأت مناظرة نقلها معتزلي في كتابه فالمنتصر فيها المعتزلي، وإذا نقلها أشعري فالمنتصر فيها أشعري، أو شيعي فالمنتصر شيعي، وهكذا.

لقد وضع علماؤنا السابقون شرطين للمناظرة: أولهما: العلم، وثانيهما: الإنصاف، فالعلم يقتضي علم المناظر بأقواله وأقوال خصمه، والإنصاف يقتضي الموضوعية، والبعد عن الهوى (أو العاطفة)، والأدب في الحوار، وتجنب الكلام في الأشخاص واتهامهم والبحث عن مثالبهم الشخصية، وكل ما لا علاقة له بالموضوع محل البحث.. إلخ.

هل تلك الآداب المذكورة في كتب البحث والمناظرة موجودة فيما نتابعه كل يوم تقريبا من مناظرات أو لا؟ أما أنا فلا أكاد أجدها إلا في النادر القليل جدا.

بل الغالب على المناظرات اليوم الرغبة في إظهار قوة المناظِر، وإرادة "تبكيت" خصمه دون السعي الحقيقي لمعرفة الحق؛ ذاك أن المناظِر لا يدخل الحوار إلا وهو يعلم أنه على الحق المطلق، وإذا حصل وأفحمه خصمه اتهمه بأنه عليم اللسان يموّه في الكلام!

والغالب على المناظرات اليوم أن هدفها كسب الجماهير وإرضاء الأتباع أكثر من معرفة الحق.

والغالب على المناظرات اليوم استعانة أصحابها بما هو خارج البحث، وبما يفيد "التبكيت" لا لشيء إلا "للتبكيت"، ولهذا حيل معروفة؛ فمن ذلك مثلا:

أن يضع المحاور خصمه بين خيارين "كاذبين" بهدف إحراجه. مع أن الاحتمالات هنا ليست محصورة في احتمالين فقط! فقد يوجد احتمال ثالث، وقد يخفى هذا على المسؤول مع انشغاله بالمحاورة فيقع المسكين -وارحمتا له- في الفخ. ثم يزداد الأمر سوءا إذا اكتشف المسؤول الحيلة فأنكر هذا السؤال، وحينها يتهم بأنه يتهرب من الإجابة!

ومن وسائل الاستعانة بالخارج كذلك: أن يقوم المحاور بالاستخفاف بمحاوِره والهزء به، فيضطره إلى الخروج عن الهدوء فيبدو أمام الناس ضعيفا مرتبكا متحيرا مهزوزا (وهذه وسيلة شائعة عند صغار العقول والنفوس الذين يعلمون ضعف مواقفهم فيغطونها بهذا الأسلوب الرديء).

ومن ذلك أيضا: الإغراق في استعمال المصطلحات التي هي أصلا محل غموض ولها تعريفات كثيرة، فيفهم المحاور منها مصطلحا فيفجؤه خصمه بأن هذا ليس ما يعنيه فينقض عليه ويظهره أمام الناس جاهلا، وهنا يبدو المحاور ضعيفا فيرتبك ويغلط.

ومن ذلك أيضا: أن يفتح المجادل كلاما كثيرا، وحشوا زائدا عن محل النزاع، ويتشعب في الحديث بما هو خارج عن النقطة التي قام عليها الحوار، فيخلط الشامي بالمغربي، ويمزج السمك مع اللبن مع التمر الهندي، ويشتت المسألة المبحوثة، فتضيع بين هذا الزحام من الكلمات، فلا يستطيع الخصم الإجابة عنها لكثرتها.

دع عنك المغالطات الذكية التي تخفى على الجماهير أصلا فيسهل بها خداعهم، وأمثلة هذا كثيرة.

لا أرى المناظرات طريقا لمعرفة الحق، بل لا أراها وسيلة لإقامة الحجة أصلا على المخالف، لأنه قد ينتصر المناظِر لا لأن كلامه حق، بل لأنه محتال جيد، ومتحدث بارع، ومغالط محترف.

من أراد الحق فليبحث ولينظر بنفسه، وليطل النظر، وليأخذ في هذا ما أتيح له من وقت، وليكتف من هذه المناظرات بأن تفتح له -ربما- بابا من السؤال كان موصدا.